لسان الفتى نصفٌ و نصفٌ فؤاده

24 مايو 2021
24 مايو 2021

يعاني أكثر الناشئة في كثير من المجتمعات والدول من صعوبة في القراءة وفي التعبير بالكتابة. ومع أن هذه المشكلة ليست ظاهرة جديدة، لكن جائحة كوفيد19 ستفاقمها، وهذا ما أكده تقرير صدر عن البنك الدولي في أواخر السنة الماضية عن آثار هذه الجائحة حول العالم. وفي القسم المتعلق بجودة التعليم حذر البنك من أن أكثر من 53% ممن أكملوا المرحلة الابتدائية في البلدان منخفضة أو متوسطة الدخل سيصبحون غير قادرين على قراءة جملة مفيدة، وهو ما ينذر بعواقب وخيمة على الأجيال القادمة.

اخترت صدر بيت شعر من معلقة زهير بن أبي سلمى، أحد أبرز شعراء العرب وحكمائهم في العصر الجاهلي، ليكون عنوانا لهذا المقال. ورغم أن زهيرًا لم يكن يعني الكتابة تحديدًا، لكنني اعتبرتها كذلك مجازًا لقوة العلاقة بين الكلام والكتابة، فكلاهما وسيلة للتعبير عما في النفس، ودليل على مدى رجاحة العقل والقدرة على الإقناع.

يبدو أن وضع الكتابة في المجتمعات عامة أصبح في الوقت الحاضر أكثر قتامة ومدعاة للأسف من وضع القراءة بين تلاميذ المدارس الابتدائية المشار إليها في تقرير البنك الدولي، حيث إن تدني القدرة على الكتابة لم يعد مقتصرًا على من أنهوا المرحلة الابتدائية وإنما يعاني منه كذلك خريجو الجامعات، وربما أيضا من هم فوق المستوى الجامعي. ويظهر ذلك جليًا في اللغة الركيكة المستخدمة حتى في الرسائل القصيرة، لاسيما تلك التي تجري عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

مشكلةُ صعوبة الكتابة ليست محصورة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، كما ذكر البنك الدولي عن موضوع القراءة، وإنما تشمل كذلك البلدان عالية الدخل، بما فيها الدول العربية، حيث إن كثيرا من الناس، وبغضّ النظر عن مستوياتهم التعليمية، يستخدمون في مراسلاتهم مفردات وأساليب تنقصها السلامة اللغوية في كل جوانبها أو معظمها. لا نتكلم هنا عن الجوانب النحوية أو البلاغية في اللغة، فذلك من المسكوت منه على مستويات كثيرة، وإنما نتكلم عن المفردات المستخدمة وصياغتها وأساليب ربطها مع بعضها. ولا نبالغ إذا قلنا: إن وسائل التواصل الاجتماعي بقدر ما هي مفيدة في جوانب كثيرة من جوانب الحياة إلا إنها أصبحت تشكل تهديدًا للغة والثقافة وتؤثر سلبًا على بعض القيم الاجتماعية، ومنها آداب الحديث ولغة التخاطب بين الناس، لذلك فإنه يجب الرقي بما يُطرح أو يُتداول سواء من ناحية الموضوع أو اللغة أو المفردات المستخدمة. لكن موضوع وسائل التواصل الاجتماعي وما يطرح فيها ليس موضوع هذا المقال، رغم أهميته القصوى. لذلك فهو يحتاج إلى دراسة ونقاش على عدة مستويات تربوية واجتماعية وإعلامية.

وعودا إلى موضوع الكتابة فإن أمرها يكون أكثر صعوبة عندما يضطر هؤلاء أو يُطلب منهم كتابة رسالة، قد لا تتجاوز خمسة أسطر، أبسطها رسالة لطلب وظيفة في جهة حكومية أو خاصة. ونظرًا للصعوبة التي يجدها هؤلاء وعدم قدرتهم على كتابة رسالة تعبر بشكل واضح عن طلبهم، فإنهم يلجؤون إلى شبكة الإنترنت و يستخرجون منها رسائل جاهزة. ومع ذلك فكثيرًا ما تظهر في تلك الرسائل أخطاء، مثل عدم كتابة اسم الشخص أو الجهة المخاطبة التي يخاطبونها بشكل صحيح، أو استخدام عبارات أو مفردات في غير محلها أو خارج السياق.

إن مسؤولية نشر التعليم، بما في ذلك علوم وفنون التعبير والكتابة، مسؤولية مشتركة بين الأسرة ومؤسسات التعليم بمختلف مستوياته. لكن العبء الأكبر في ذلك يقع على المناهج الدراسية ووسائل تدريسها وعلى المعلمين وطرق تدريسهم. ونظرا لاتساع المشكلة وتزايدها، فمن الواضح أن هناك خللًا كبيرًا في هذا الجانب لا بد من تصحيحه من خلال إعادة ترتيب الأولويات في المناهج التعليمية. صحيح أنه من المهم الاعتناء بالمواد العلمية والرياضيات وباللغات الأجنبية والمواد الأخرى، لكن حسن تعبير الطالب عما يكتسبه من علوم ومعارف، سواء بالكتابة أو بالإلقاء أو بالتطبيق، لا يقل أهمية عن اكتساب تلك العلوم والمعارف، وإلا فكيف يجري التأليف ونقل المعارف ونشرها في المجتمع وإلى الأجيال القادمة! لست من التربويين كما أنني غير مختص في المناهج الدراسية، لكني حين أقلب بعض الكتب المدرسية وأرى ما يطلب من التلاميذ تعلمه منها، أشعر أنها مثقلة بموضوعات ليس بتلك الأهمية، ومنها على سبيل المثال النصوص الطويلة التي يلزم التلاميذ بحفظ عدد منها في كل سنة دراسية، و كذلك بعض المواد المقررة والمحشوة بموضوعات غير مفيدة. ويزداد الأمر صعوبة في دروس اللغة العربية التي لم يجرِ تطوير وسائل إيضاح كافية لتدريسها مقارنة باللغة الإنجليزية مثلا. أشعر بالشفقة على التلاميذ وأهلهم عندما أرى التلاميذ يقضون ساعات طويلة يحاولون جاهدين حفظ نص طويل، خاصة إذا كان المطلوب حفظ عدة نصوص وفي أكثر من مقرر دراسي. والنتيجة أنه بعد أكثر من خمس عشرة سنة دراسية أو أكثر، من مستوى الروضة إلى المرحلة الجامعية، يجد الطالب أو الخريج نفسه غير قادر على كتابة رسالة قصيرة يعبر فيها بلغة سليمة عما يريد. لذلك فإن المناهج الدراسية وطرق التدريس يجب أن تركز على فهم النصوص وليس على حفظها. صحيح أن هناك حاجة إلى أن يحفظ الطالب خلال سنوات الدراسة بضع آيات أو سور قصيرة من القرآن الكريم ليتلوها في صلواته، وشيء من الأحاديث النبوية ليبصِّر بها نفسه في أمور دينه، وكذلك بعض من الشعر والنثر العربي أو من لغات أخرى، لكن يجب أن يكون التركيز على الفهم أكثر منه على الحفظ، فإن فهم التلميذ للنص يسهّل عليه تذكره وحفظ بعضه أو كله. كما يجب التركيز على تطوير وتحسين القدرات الكتابية للطلبة، خاصة في مواد اللغة العربية وغيرها من اللغات، لما لذلك من أثر في بناء الشخصية وعلى القدرة في التأثير في الآخر. وإذا كان لا بد من موضوعات أو ساعات دراسة تكميلية لجوانب في المنهج الدراسي فإنه يمكن أن تتاح الفرصة والمساعدة للتلاميذ لتلقيها خارج ساعات المدرسة أو خلال الإجازات، على أن يكون ذلك بصفة اختيارية و لا يجب أن تدخل الدرجات التي يحصل عليها الطالب في المواد التكميلية في النتيجة الإجمالية المطلوبة للانتقال إلى مرحلة دراسية أعلى. ويمكن تشجيع التلاميذ على الالتحاق بتلك الدروس من خلال مسابقات يحصل المتفوقون فيها على بعض الجوائز والحوافز.

* باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية