رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة

10 سبتمبر 2023
10 سبتمبر 2023

بالإشارة إلى الشكوى التي رفعها مندوب «إسرائيل» في الأمم المتحدة، وسبق ورُفعت شكوى مماثلة لها في شهر مايو من عام 2018م، حول ما وصف بأنه «تعليقات معادية للسامية من قبل الرئيس الفلسطيني» لقوله أمام المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ 23، ثم في آخر اجتماع للمجلس الثوري لحركة فتح: «إن المذابح التي تعرض لها اليهود في أوروبا منذ القرن الحادي عشر وحتى الهولوكوست حدثت بسبب الوظيفة الاجتماعية التي أدوها من خلال تعاملهم بالربى والأعمال المصرفية».

يهمني في هذا الصدد أن ألفت عنايتكم إلى «ورقة العمل» المدرجة على الموقع الإلكتروني لمنظمتكم الموقرة، بعنوان «تاريخ اليهود في أوروبا أثناء القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين» بقلم مونيكا ريتشارز الأستاذة الفخرية في جامعة هامبورج «ألمانيا»، والتي أرجعت ودونَ لبسٍ ولا غُموضٍ تفشي واستشراء المعاداة للسامية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى بدايات الحرب العالمية الثانية إلى «اشتغال اليهود بالتجارة وإقراض المال وإلقاء اللائمة عليهم بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي رافقت صعود الرأسمالية والتصنيع».

إن إبراز الباحثة هنا للأسباب الاقتصادية والاجتماعية لصعود المعاداة للسامية كأسباب أساسية ومباشرة لا ينفي أن تكون هناك أسباب أخرى مرتبطة بها أو متفرعة عنها، وهو تماما ما يقوله المفكرون اليهود الثلاثة الذين استشهد بهم الرئيس محمود عباس في خطابيه، ونقل عنهم فيما يمكن اعتباره من ناحية وبموجب المادة «19» من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ممارسة لحقه في حرية الرأي والتعبير واعتناق الآراء والتماس الأنباء والأفكار ونقلها إلى الآخرين. ومن ناحية أخرى، «تثقيفا بالمحرقة وإقرارا بحدوثها واستفادة من دروسها، يتفق مع مدلولات المادة «2» من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة A/RES/60/7 ولا يشذ عنه.

ولا غضاضة سيدي الأمين العام أن تكون على موقعكم هذه المعلومات، فهي تتفق أيضاً مع ما يقوله «ثيودور هرتزل» مؤسس الحركة الصهيونية في كتابه الأهم «دولة اليهود»: «إننا نحن اليهود قد صنعنا الجيتو على ما نحن عليه. فمما لا شك فيه أننا اكتسبنا تفوقا ماليا لأن ظروف العصور الوسطى دفعتنا إلى ذلك. والآن تتكرر نفس العملية، ولأننا في البورصة فإننا بالتالي نتعرض من جديد للاحتقار».

بل هنالك ما هو أدهى وأخطر، وما سيقع كالصاعقة على نتانياهو ومندوبيه دانون، وجلعاد، بل وعلى الأبواق الدولية التي ما لبثت أن اشتاطت غضباً للأمر، إن «ثيودور هتزل» وليس «محمود عباس» هو من ينفي عن «معاداة السامية» السمة الدينية ويحصرها بالأسباب الاقتصادية السياسية وحدها وإليكم الدليل القاطع فيما كتبه: «لن نتطرق مرة أخرى إلى تلك الأسباب التي هي نتاج المزاج كالتعصب وضيق الأفق، وإنما نقتصر على الأسباب السياسية والاقتصادية وحدها. إن العداء الحديث للسامية لا ينبغي أن يختلط علينا مع الاضطهاد الديني لليهود في الزمن الماضي، إنه يتخذ أحياناً شكل التعصب الديني في بعض البلاد، ولكن التيار الرئيسي لحركة العنف قد تغير الآن. ومن الغريب أننا ونحن في الجيتو قد تحولنا إلى برجوازيين، وخرجنا منه فقط لندخل في منافسة ضارية مع الطبقة المتوسطة».

بذلك يكون الجدل قد احتدم، وظل قطباه على طرفي نقيض «دولة إسرائيل» ممثلة بنتانياهو ومندوبه الدائم، التي تصر على أن السبب الأساس لمعاداة السامية في الزمن الحديث «ديني»، بينما يؤكد «هرتزل» أبو الصهيونية «أن العداء الحديث للسامية أسبابه الأساسية سياسية واقتصادية، ولا أعرف تبعاً لذلك، إذا كانت تهمة العداء للسامية ستلصق بـهرتزل جريرة تعبيره عن رأيه وقناعته أو أنه سيتحول وليس أحداً غيره عنوانا للشكوى المقدمة إليكم؟!

بقي أن نقتبس من «ثيودور هرتزل» في مسألتين ستضعان الشكوى المقدمة من «إسرائيل» في سلة المهملات: الأولى: حول إذا ما كانت الحركة الصهيونية نتيجة لمؤامرة أوروبية، يقول «ثيودور هرتزل»: «هناك الآن منطقتان في الاعتبار: فلسطين والأرجنتين. ففي كلا البلدين هناك تجارب ىستعمارية هامة. ولكن عندما يشعر السكان المحليون أنهم مهددون فيجبرون الحكومة على إيقاف أي تدفق جديد لليهود، وبالتالي فإن الهجرة لا جدوى منها مالم تقم على أساس من هيمنة مضمونة. إن جمعية اليهود «يقصد المنظمة الصهيونية» سوف تتعامل مع الملاك الحاليين للأرض، وستضع نفسها تحت حماية القوى الأوروبية، إذا أثبتوا أنهم متعاطفون مع الخطة».

ولا داعي لشرح كيف تم بسط الهيمنة المضمونة وبأية وسائل ولا كيف تم التعامل مع السكان الأصليين في فلسطين (الملاك)، بل إن كلمة تعاطف حكومة جلالة الملك مع إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، المكتوبة في وعد بلفور ومن ثم في صك الانتداب، كفيلة بالتفسير وجاءت مطابقة تماما.

الثانية: يقول «ثيودور هرتزل»: إن أعداء السامية المخلصين بينما يحافظون على استقلالهم، سيقومون بالتعاون مع موظفينا في إدارة نقل ممتلكاتنا.. إنهم سيخلقون الرغبة بالهجرة حيثما لم تكن موجودة، ويمنحونها القوة».

وبكلامه الواضح والسافر يكشف «ثيودور هرتزل» الأساس الفكري والنظري الذي تم على أساسه في السنوات اللاحقة توقيع اتفاقية «هعفراه» أو «النقل» بين الوكالة اليهودية وألمانيا النازية في 25 أغسطس 1933م وتم بمقتضاها تهجير أكثر من 50 ألف يهودي إلى فلسطين واستبدال ممتلكاتهم في ألمانيا بأموال ومنتجات ومعدات ألمانية بقيمة 140 مليون مارك رايخ.

الأمين العام/ إن استيفاء الحقيقة ولو بأقل مقدارٍ ممكن، يُلزمنا على الأقل بإنصاف الكتاب اليهود الذين استشهد بهم الرئيس محمود عباس في حديثه، فاسحق دويتشر كاتب يهودي من أصول بولندية انضم إلى هيئة تحرير مجلة الايكونوميست (The Economist)، ثم إلى هيئة تحرير الأوبزرفر وتفرغ بعدها لإصدار سلسلة من الكتب الشهيرة الموجودة بلا أدنى شك في مكتبة منظمتكم الموقرة وفي مكتبة الاتحاد الأوروبي ومكتبة الكونغرس الأميركي، تلك الكتب التي يعد واحداً من أهمها كتابه «اليهودي واللايهودي» الذي استند الرئيس محمود عباس في خطابه إليه كأحد المراجع الموثقة.

لقد تنقل اسحق دويتشر في حياته المهنية في أغلب الدول الأوروبية واستقر به المطاف في الولايات المتحدة الأميركية وكتب لأشهر الصحف العالمية، وحاضر في أشهر الجامعات، ما يعني أنه لم يكن محظوراً أو محجوراً أو موصوماً باللاسامية.

وحَري ٌ بنا أن نستغرب ونتعجب من احتجاج حكومة «إسرائيل» على استدلال الرئيس محمود عباس ببعض ما كتبه ونشره «دويتشر» ووصمه باللاسامية، في حين أنها لم تحتج في الأصل على اسحاق دويتشر، نفسه، الذي استقبله رئيس وزراء «إسرائيل» الأسبق «موشى شاريت» بمكتبه في القدس بمنتهى الترحاب والتكريم!!

لقد كان «دويتشر» يهوديا في نشأته وتكوينه، لكنه كان إنسانيا في نظرته إلى دوره ومحيطه، وربما يرسم الاقتطاف التالي الخط الفاصل بينه (ومعه التيار الأعرض من اليهود في العالم الذين فضلوا ولا زالوا يفضلون الاندماج في مجتمعاتهم)، وبين تيار الحركة الصهيونية، الذي التقى مع أعداء السامية في مبدأ «إخراج اليهود من بلدانهم وتجميعهم في بلد واحد».

يقول «دويتشر»: «إن الثوريين اليهود العظام في الفكر الحديث أمثال اسبينوزا، وهاين، وماركس، وروزا لوكسمبرج، تروتسكي وفرويد، تخطوا حدود اليهودية لأنهم وجدوها ضيقة ومقيدة. وتطلعوا إلى مُثـُل وإنجازات أبعد، فهم يمثلون حصيلة وجوهر كل ما هو عظيم في الفكر الإنساني.. أما أولئك الذين ينغلقون في مجتمع واحد أو شعب واحد أو دين واحد، فإنهم يميلون إلى التخيل بأن طريقتهم في الحياة أو في التفكير تكون دوماً صالحة وبصورة مطلقة، وأن كل ما يناقض مقاييسهم هو «غير طبيعي» ووضيع وأثيم بطريقة أو بأخرى»، ولا شك أن هذا الوصف ينطبق على نتانياهو ومندوبه في الأمم المتحدة والتيار الصهيوني بين اليهود برمته».

محمود التميمي كاتب فلسطيني