العملات المشفرة والمأزق الاقتصادي

02 يناير 2023
02 يناير 2023

منذ مطلع القرن الواحد والعشرين والبشرية تمر بحقبة من التطور التكنولوجي غير المسبوقة، هذا التطور الهائل والمتسارع يرتكز على التحول من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، ومن التعقيد إلى السهل البسيط، ومن المركزية إلى اللامركزية، ومن الطبيعي إلى السريع الفائق، وكل تلك المرتكزات تتمازج مع بعضها البعض على الدوام لتشكل عالما بقدر ما نفخر به، بقدر ما يلازمه الغموض والتوجس مما سيؤول إليه مستقبلنا. وفي خضم هذه الطفرة التكنولوجية الكاسحة والشاملة، وتنوع مجالات توظيف التكنولوجيا، طال ذاك التقدم التكنولوجي أحد أهم الأسوار المحصنة في النظام المالي العالمي والمتمثلة في العُملات. وأصبح التقدم السريع الحاصل في طرح هذه التقنيات واعتمادها موضع نقاش عالمي في أوساط صناع القرار والخبراء الاقتصاديين والماليين الذين يتساءلون عما إذا كانت التقنيات المالية الناشئة هذه ستؤدي إلى زعزعة مفهوم المال بحد ذاته. فحدوث ذلك يمكن أن يؤدي إلى تغيير العلاقة القائمة بين الحكومات والبنوك والأفراد، وكسر الصلة ما بين العملة والدولة.

لقد كان عام 2009م عاما فارقا بظهور العملات المشفرة ((cryptocurrency)) وفي مقدمتها عملة (البتكوين) ليكون ذلك إيذانا بكسر احتكار البنوك المركزية لإصدار العملات، وتغييرا كبيرا لقواعد النظام المالي العالمي. ولتنشأ حالة من الارتباك التي أحدثتها العملات المشفرة بين مؤيد ومعارض وثالث ينظر من طرف خفي، ففي حين أن المؤيدين يرونه فتحا تقنيا وحتمية من حتميات التقدم والتطور الذي تقوده التقنية، يراه المعارضون لهذا النوع من العملات إيذانا للفوضى مبررين رفضهم بثلاثة أسباب رئيسة وهي:

- تتعرض قيمة العملات المشفرة لتقلبات شديدة، الأمر الذي لا يجعلها قادرة على أن تكون وحدة حساب.

- أنها أقل فاعلية بكثير من النقود، حيث إن تقلب سعرها المستمر ورفض الكثير من المؤسسات قبولها لا يسمح بجعلها وسيلة دفع.

- يتم إصدارها من الفراغ، إذ إنها لا تستند لقوة اقتصادية أو أي أساس حقيقي كتجارة سلعية أو خدمية أو أي نوع من الاستثمار، فكل ما تستند إليه القوة الحاسوبية.

إن الارتباك الذي أحدثه ظهور هذا النوع من العملات بدأ فيما بدأ في تسميتها، فسميت بالعملات الافتراضية، وبالعملات اللامركزية، وبالعملة البديلة، قبل أن يستقر اسمها بالعملات المشفرة (cryptocurrency) كونها تعتمد على تقنية التشفير، هذه التقنية المعروفة بسلسلة الكتل أو سجل الحسابات الموزع (blockchain) وهي عبارة عن سجل شامل للمعاملات بنظام التشفير الآمن والتي سبق ظهورها العملات المشفرة بعام.

إن منشأ القلق الذي ظهر بظهور العملات المشفرة وبدء تداولها واستخدامها، يأتي من مزاحمتها لأحد أهم مبادئ الاقتصاد الحديث والمتعلق بالنظام النقدي، وهو أن البنوك المركزية هي الكيان الوحيد المسؤول عن إصدار العملات وضخها في الاقتصاد ومراقبتها واستبدالها وحتى إلغائها، إذ لا يمكن لأي كيان آخر أن يقوم بهذه المهام غير البنوك المركزية التي هي ضمن سلطة الدولة، في حين أن العملات المشفرة لا ترتبط بنظام قانوني لأي دولة وهي ليست ضمن رقابة البنوك المركزية وهذا الأمر له تداعيات معتبرة أبرزها:

- إن العملة الصادرة عن البنوك المركزية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسياسة النقدية للدولة، من حيث ضبط حجم تدفق السيولة في الاقتصاد للتحكم بمعدلات التضخم وضمان استقرار الأسعار، وكون أن العملات المشفرة هي خارج نطاق سيطرة البنوك المركزية فإن السياسة النقدية ستكون خارج نطاق سيطرة الدولة مما يعرّض الخطط الاقتصادية إلى مخاطر كبيرة.

- في حال فقدت البنوك المركزية سيطرتها على عملية إصدار العملة، فإنها لن تستطيع التأثير على المعروض النقدي. وفي حال فقدت أيضا سيطرتها على تحديد أسعار الفائدة، فلن تتمكن من التأثير على الطلب على النقود.

- لا تستند العملات المشفرة لأي أساس استثماري وقانوني وهي ليست مدعومة بنشاط حقيقي، حيث إن العملات التقليدية تستمد ثقتها من قوة الاقتصاد الذي تنتمي إليه وضمان الدولة لها.

- التقلبات الشديدة في العملات المشفرة يجعل من اعتمادها كوسيلة دفع أمر بالغ الصعوبة.

- تتنقل العملات المشفرة ضمن نظام تشفير محكم لذلك فإن الأنشطة غير المشروعة مثل تجارة المخدرات وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب وغيرها ستكون في تزايد علاوة على التهرب الضريبي.

- تستهلك عملية التعدين الإلكتروني للعملات المشفرة كمية هائلة من الطاقة، وهذا يعني مصدرا جديدا للتلوث البيئي جراء استهلاك الكبير للطاقة.

ظل النقاش حول العملات المشفرة نظريا في بدايته، ولكن الانتشار الكبير لها وسوقها الذي بلغ نحو 3 تريليونات دولار في فترة سابقة قبل أن ينحدر بشكل حاد في الربع الأخير من هذا العام (2022م)، أفضى إلى تحرك المؤسسات الدولية والمطالبة بإيجاد صيغة مقبولة لتداول الأصول المشفرة، حيث حثت الأمانة العامة للأمم المتحدة ممثلة بـ(الأونكتاد) دول العالم خاصة الدول النامية لاتخاذ جملة من الإجراءات للسيطرة على توسع العملات المشفرة وحماية اقتصادها، جاءت كما يلي:

- ضمان التنظيم المالي الشامل للعملات المشفرة من خلال تنظيم عمليات تبادل العملة المشفرة والمحافظ الرقمية والتمويل اللامركزي، وحظر المؤسسات المالية المنظمة من الاحتفاظ بالعملات المشفرة (بما في ذلك العملات المستقرة) أو تقديم المنتجات ذات الصلة للعملاء.

- تقييد الإعلانات المتعلقة بالعملات المشفرة، كما هو الحال بالنسبة للأصول المالية الأخرى عالية المخاطر.

- توفير نظام دفع عام آمن وموثوق وميسور التكلفة ومكيف مع العصر الرقمي.

- الموافقة على تنسيق ضريبي عالمي وتنفيذه فيما يتعلق بالمعاملات الضريبية والتنظيم ومشاركة المعلومات الخاصة بالعملات المشفرة.

- إعادة تصميم ضوابط رأس المال لتأخذ في الاعتبار الميزات اللامركزية التي لا حدود لها والتي تحمل أسماء مستعارة للعملات المشفرة.

خلاصة القول، لقد أضحت العملات المشفرة واقعا لا يمكن تجاهله، وبقدر ما تحمله من مخاطر على الاقتصاد إلا أنه من المرجح أن يتم التوصل مستقبلا إلى صيغة توافقية لتداولها تحت رقابة النظام المالي العالمي دون التأثير الكامل على سماتها الأساسية وهي التشفير واللامركزية.

ماجد الخروصي ( باحث اقتصادي)