الاندماج النووي فتح علمي حقا.. لكنه لن ينقذ العالم
ترجمة: أحمد شافعي -
كان الكشف عن نجاح الباحثين في التوصل إلى تفاعل اندماج نووي يولد من الطاقة أكثر مما يستهلك خبرا باعثا على الطمأنينة في الأسبوع الماضي. إنني أكتب منذ قرابة نصف قرن في الشؤون العلمية، ولم يكتمل عليَّ عِقد في تلك الفترة دون إعلانين أو ثلاثة يزعم فيها العلماء بأن عملهم سوف يتيح للعلم عما قريب أن يعيد خلق العمليات التي تعمل بها الشمس، وأن النتيجة النهائية سوف تكون توليد اندماج نووي رخيص نظيف من شأنه أن يغير حياتنا تماما.
ندرت في الفترة الأخيرة هذه الفئة من الإعلانات، لذلك فقد اطمأن قلبي إذ أدركت أن الأمور ربما تكون قد رجعت إلى نصابها. من خلال نشر مجموعة من 192 من أجهزة الليزر لقصف كريات نظائري الهيدروجين من الديوتيريوم والتريتيوم، تمكَّن الباحثون في المركز الوطني الأمريكي للإشعال في ليفرمور بولاية كاليفورنيا من توليد درجة حرارة لا توجد إلا في النجوم والقنابل النووية الحرارية، ثم دمجت النظائر لاحقا لإنتاج الهليوم مما أنتج فائضا من الطاقة حسبما قال الباحثون.
كان ذلك حدثا فارقا لكنه ليس حدثا كبيرا، برغم أن هذا لم يمنع الحكومة الأمريكية وقطاعات كبيرة من الإعلام العالمي من الانغماس في احتفال صاخب واسع النطاق بالإنجاز الذي حققه المختبر. فإذا بهيئة الإذاعة البريطانية تعلن أن الباحثين «تغلبوا على عائق كبير» نحو الوصول إلى الاندماج، وإذا بصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية تصف الإنجاز بأنه فتح قد يكون بشارة بعصر طاقة نظيفة رخيصة.
ومن المؤكد أن الاندماج النووي يمكن أن يكون ذا أثر مفيد على كوكبنا بإطلاقه كميات هائلة من الطاقة دونما توليد مستويات عالية من الانبعاثات الكربونية ومن شأن ذلك أن يكون دفعة لا جدال فيها في المعركة الجارية ضد تغير المناخ.
لكن المشكلة أننا صادفنا أمثال هذه الرؤى مرات كثيرة من قبل. ففي عام 1958 زعم السير جون كوكروفت أن مشروعه (زيتا) للاندماج سوف يوفر للعالم «مددا لا ينضب من الوقود». ولم يفعل. وفي عام 1989، أعلن مارتن فليشمان وستانلي بونس أنهما حققا اندماجا باستعمال معدات مختبرية بسيطة، فتصدَّر إعلانهما العناوين العالمية ثم لم يتكرَّر عملهما على الإطلاق.
ويمكنكم أن تضموا إلى هذه القائمة (المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي)، وهو منشأة ضخمة تقام في سان بل ليه دورانس في بروفنس بفرنسا وكان يفترض أن تحقق الاندماج بحلول عام 2023 ولكنها تأخرت عن الموعد المجدول بأكثر من عشر سنين مثلما تجاوزت الميزانية بعشرات المليارات من الدولارات.
في كل حالة، كانت التنبؤات تذهب إلى أن إقامة أول محطات الاندماج النووي المجدية تجاريا هي على بعد عقد أو اثنين من تغيير حياتنا. ولكن هذه الآمال لم تتحقق قط وأفضت إلى انتشار السخرية بين الصحفيين الصغار والعلماء، فمن نكاتهم الآن أن «الاندماج على بعد ثلاثين سنة، وسيبقى كذلك دائما».
كان غريبا أن تذهب جينيفر جرانهولم وزيرة الطاقة الأمريكية إلى أن إنجاز المركز الوطني الأمريكي للإشعال هو «من أكثر المآثر العلمية إثارة للإعجاب في القرن الحادي والعشرين». فهذا زعم عسير التبرير، لأن القرن قد شهد بالفعل اكتشاف جزيء هيجس، وتخليق لقاحات «كوفيد-19»، وإطلاق تلسكوب جيمس ويب وتفكيك الجينوم البشري. وبالمقارنة، فإن حدث الإشعال الذي شهده المركز الوطني الأمريكي للإشعال يأتي في المرتبة التالية.
تحلى أغلب العلماء بالحذر في ردود أفعالهم تجاه «فتح» المركز الوطني الأمريكي للإشعال المصحوب بصخب مغالى فيه. فهم يقرُّون بأن خطوة أساسية قد خطيت باتجاه طاقة اندماج تجارية لكنهم يصرون أن مثل هذه المحطات تظل أهدافا بعيدة. ولا ينبغي النظر إليها باعتبارها الخلاص المحتمل الذي سينتشلنا من أزمة الطاقة المستفحلة التي نشهدها حاليا، برغم كل المزاعم التي ترددت على مدار الأسبوع الماضي.
لقد أوصلت الإنسانية نفسها إلى نقطة بات فيها اعتمادها الرهيب على الوقود الحفري يهدد بإحداث قفزة بمقدار درجتين مئويتين في درجات الحرارة العالمية مقارنة بماضينا في ما قبل العصر الصناعي. وسوف يكون من جملة العوائق المترتبة على ذلك فيضانات وحرائق وتفاقم في العواصف وارتفاع في منسوب البحار وانتشار لأمراض وذوبان للقمم الجليدية.
والعلماء واضحون في هذه النقطة، فهم يرون أنه لن تأتينا طاقة الاندماج في الوقت المناسب لإنقاذ العالم. قالت أنيقة خان ـ الباحثة الزميلة في الاندماج النووي بجامعة مانشستر: «إننا لم نزل على مسافة بعيدة من الاندماج التجاري بحيث لا يمكن أن يساعدنا في أزمة المناخ الراهنة». وساند هذه الرؤية توني رولستون باحث الطاقة النووية في جامعة كمبريدج إذ قال إن «هذه النتيجة التي توصل إليها المركز الوطني الأمريكي للإشعال تمثل نجاحا للعلم، لكن الطريق لم يزل طويلا دون إنتاج طاقة نظيفة وفيرة نافعة».
في الوقت الراهن، ثمة مساران أساسيان للاندماج النووي. واحد يتعلق بتحديد البلازما الساخنة في مجال مغناطيسي قوي. وهذا هو النهج الذي يتبعه المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي. والمسار الثاني -الذي تبناه المركز الوطني الأمريكي للإشعال- ويستعمل أجهزة الليزر لتفجير كريات الديوتيريوم والتريتيوم مما يؤدي إلى انهيارها والاندماج لتكوين الهيليوم. وفي كلتا الحالتين. تحدث التفاعلات عند أكثر من 100 مليون درجة مئوية وتنطوي على مصاعب تكنولوجية كبيرة من أجل السيطرة عليها.
لذلك يبقى الاندماج تكنولوجيا بعيدة المدى، برغم أن العديد من المستثمرين ورجال الأعمال الجدد -ومنهم بيل جيتس وجيف بيزوس- قد وجهوا اهتمامهم أخيرا إلى هذا المجال، مما أثار الآمال في أن دفعة تجارية جديدة يمكن أن تنشط إنشاء المحطات التجارية.
يجب الترحيب بهذا التطور، لكن علينا أن نؤكد أن الاندماج لن يصل في الوقت المناسب لإنقاذ الكوكب من تغير المناخ، وأن محطات الكهرباء التي تعمل بمصادر متجددة أو بالانشطار النووي هي التي توفر البدائل الوحيدة قصيرة المدى لتلك التي تحرق الوقود الحفري. فلا بد من أن نعلق آمالنا على هذه المصادر للطاقة. قد يظفر الاندماج بمكانه في وقت لاحق من هذا القرن، لكن ليس من المسؤولية في شيء الاعتماد على مصدر طاقة سوف يستغرق ما لا يقل عن عقدين آخرين قبل أن يتحقق ـ وذلك في أحسن الأحوال.
روبين مكاي صحفي متخصص في الشؤون العلمية في صحيفة أوبزرفر البريطانية
عن الجارديان البريطانية ترجمة خاصة بجريدة عمان
