الأفعى ووحشية الموت

08 مايو 2024
08 مايو 2024

في المدرسة الثانوية أتذكر لوحة خشبية ثُبتت على الجدار المؤدي إلى الفصول الدراسية مرسوما عليها خريطة العالم الإسلامي بما فيه العالم العربي ودول الخليج العربية وأفعى كبيرة مرعبة لونها أحمر ترمز إلى الشيوعية تنفث من فمها سائلا أحمر وكأنها على وشك التهام العالم الإسلامي. كانت الشيوعية آنذاك في أوج عظمتها وقوتها وكانت تصوَّر على أنها أم السموم التي تنفثها وخطرها لا يقتصر على العالم الإسلامي بل هي كارثة ومصيبة على العالم أجمع. وعلى مدار ثلاث سنوات فترة مرحلة الثانوية كنّا نعبر من أمام اللوحة ونشاهدها وصورة الأفعى ثابتة في مكانها، وكنت أتساءل مع نفسي لماذا تصوَّر الشيوعية بالأفعى، لاحقا قرأت بالصدفة قول جان بول سارتر أشار إلى الأفعى الشيوعية في إطار حديثه عن الشيوعيين والثورة الجزائرية يقول: «إن الأفعى الشيوعية قد نجحت في ابتلاع بيكاسو ولكنها غصت به فلا هي ابتلعته ولا هي تقيأته»، وكان يقصد الشيوعيين الفرنسيين والجزائريين الذين لم يساندوا الشعب الجزائري في كفاحه ضد فرنسا بالرغم من دفاعهم عن الحرية. الذي أعلمه ويدركه الجميع أن الشيوعية التي أرادت أن تبتلع العالم الإسلامي كما يصور لنا ذلك، شاخت الأفعى وماتت وسقطت الشيوعية في معقلها وفي بقاع أخرى من العالم وتوارت واندثرت.

على مدى عقود ظلت الأفعى ترمز للشيوعية التي أَفلَ نجمها، بينما تُوسم الرأسمالية بالتوحش وهي المرحلة التي تبلغ فيها الحضارة الغربية أو الرأسمالية في مراحلها الأخيرة مرحلة التوحش حسب تفسير جون مينارد كينز في بداية القرن العشرين ولاحقا في الأدبيات الماركسية، ومنذ تلك الفترة ظل التوحش والوحشية هاجس الغرب والحضارة الغربية التي تحولت إلى وحش كاسر وأصبح التوحش هو ديدنها ونهجها، وحتى إن ماتت وانتهت فهي لن تَنعم بذلك الموت الجميل، بل الموت بوحشية كما قال الرئيس الفرنسي ماكرون في نعيه للحضارة الغربية.

الآن أتذكر لوحة الأفعى وتوحش الرأسمالية وأشاهد الكوارث المحدقة بالعالم وأتيقن أن أفعى أخرى توشك أن تلتهمه إن لم تكن التهمته بالفعل، أفعى لا لون ثابت لها، لا هي ضبابية ولا هي رمادية ولا كالحة السواد، ربما غير مرئيّة، لكنّ ملمسها ناعم، وزاهية ألونها، وسُمُّها مختلفٌ أيضا.

أفعى الرأسمالية المتوحشة نجحت في ابتلاع الأفاعي الأخرى بألوانها المختلفة، بما فيها الأفعى الشيوعية الحمراء وتسيّدت على العالم واحتلته. فكان انتشاء النصر والفوز وسحق الآخر الشيوعي والاشتراكي يحملها إلى أفق بعيد، فتوالت متوالية السقوط، فسقط جدار برلين وتراخت قبضة الاتحاد السوفييتي على المعسكر الاشتراكي إلى أن سقط في النهاية. وكان السقوط هو العنوان الأبرز والمسيطر على الفكر الغربي، وأتذكر كلمة قالها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في خطاب له: «أردنا أن نُغير أمريكا فغيّرنا العالم»، وكان الانتصار بالضربة القاضية، فكتب الكثير عن انتصار الغرب والرأسمالية ومنهم فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» مزهوا بالنصر الكبير اعتقادا منه بأن الليبرالية الغربية وديمقراطيتها ورأسماليتها هي التي ستسود العالم، وإنّ تاريخ الإنسانية والبشرية وصل إلى نهايته وخاتمته بسيادة الرأسمالية الليبرالية الغربية. وما بين الأفعى الشيوعية وأفعى الرأسمالية المتوحشة سالت أنهار من الدماء وعمت الكوارث والمصائب.

حذر البعض في حينه من ذلك السقوط المدوي ومن نشوة الانتصار الذي كان يحمل في ثناياه سقوطا آخر، وتلك الحضارة المنتصرة كانت تحمل في دواخلها بذور فنائها ودمارها، وسيأتي ذلك اليوم الذي تسقط فيه وتلحق بالاشتراكية والشيوعية. وسرعان ما تحولت تلك الحضارة الزاهية إلى أفعى كبيرة أكثر مكرا وإجراما وخداعا وهي تتربص بالعالم، والأكثر شراسة وقوة، واستطاعت في فترة وجيزة ودون حروب أن تلتهم العالم كله وكل شيء في طريقها وتنفث سمومها وتحتله وتتحكم فيه.. فتحالفت مع أفعى أخرى هي الصهيونية المقيتة فالتهمت بدورها الغرب برأسماليته وديمقراطيته وشعاراته، واحتلته وتحكمت في كل شيء فيه.. يتجلى ذلك ونحن نشاهد باستغراب وذهول فصول ومشاهد القتل والدمار وهذا الجنون المنفلت الذي تخلفه آلة الحرب والقتل اليومي والعالم صامت وكأن شيئا لم يحدث، تمادٍ غريب لا يحرك مشاعر ولا عواطف، وها هو الغرب الذي يرفع شعارات العدالة والمساواة وحقوق الإنسان يتعرى ويدوس بقدميه القذرة تلك الشعارات البراقة. وأمام هذه الانكشافات والتعرّي يعود الحديث عن سقوط الحضارة الغربية ويعود معها الجدل والسجال المتواصل عن الأخلاق والازدواجية والعنف والتوحش والمعايير المزدوجة والعنصرية والهيمنة وغيرها من العبارات، فالحضارة الغربية التي ألهمت البشرية بثورتها العلمية وصناعاتها ومخترعاتها تسقط في وحل اللامبالاة واللاإنسانية، سقوطا مدويا بلا شك. هل هو شبح الموت أو الاندثار أو السقوط الحضاري الذي حذر منه الكثير من المفكرين والفلاسفة والذي ظل كالشبح يقلق الأوروبيين والغربيين بشكل عام ويقض مضاجعهم، ذلك القلق عبَّر عنه مؤخرا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وكأنه ينعى أوروبا ويقول: «ستموت بوحشية»، ففي حواره مع مجلة الإيكونوميست الذي أجراه معها في 2 مايو 2024، حيث قال ما خلاصته: «إن الحضارة الغربية يمكن أن تموت، وأن نهايتها يمكن أن تكون وحشية، وأن هذا يمكن أن يحدث بسرعة أكبر مما يعتقد كثيرون». وصدرت عدة كتب ومؤلفات تتنبأ بسقوط الغرب وحضارته فعلى سبيل المثال أصدر الكاتب صمويل هنتجتون (صِدام الحضارات) الذي قال فيه بأن الغرب لم ينتصر فعليا بمجرد سقوط الاشتراكية ولم ينته العالم بذلك وتنبأ بصراع ثقافي ينحصر بين ثلاث حضارات: الحضارة الرأسمالية والحضارة الصينية والحضارة الإسلامية.

وأمام هذه التداعيات والانهيارات قد يتساءل البعض لماذا تؤول الأمور إلى هذه النتيجة، لماذا هذه الحضارة المدججة بالعلم والحداثة تنحدر إلى هذا الحضيض والانزلاق المتسارع إلى الهاوية؟ المفكر الأمريكي باتريك بوكانان ذكر في كتابه (موت الغرب) الذي أحدث صدمة قوية ورعبا في الغرب. يعتقد بوكانان أن (أمم الغرب تعرضت لثورة ثقافية اجتماعية في العقود الأخيرة استطاعت من خلالها ظهور نخب سياسية فكرية تحتل مناصب عالية تعمل على تفكيك نظام القيم والمعتقدات والأفكار وتغير منظومة التربية والتعليم والفنون والترفيه لخلق شعوب جديدة مهجنة مشبعة بثقافة اللذة والجنس والبحث عن النفوذ سلبت الإنسان الغربي وتباعد جسده عن روحه)، وقبله كان الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه يعتقد بعدمية الحضارة الأوروبية وأرجع تلك العدمية إلى الأساس الذي قامت وبنيت عليه تلك الحضارة، فهي لم تقم إلا على الانحطاط الأخلاقي، واقترح أن يتم هدمها لتقوم مكانها عدمية إيجابية كما يقول.

لا نعيب العدمية الأوروبية ولا نقف شامتين ولا متفرجين أمام هذا الانحدار والسقوط الذي إن حصل سوف يكون دمارا شاملا وطوفانا يجرف كل شيء في طريقه. في الوقت الذي يجب أن نعترف حقا أن العدمية ليست غربية ولا تقتصر على الحضارة الأوروبية وإنما أصابت عدواها العالم أجمع أضحت عدمية كونية لا حدود لعدميتها ولا مدى لجنونها، أسقطت كل شيء في وحلها، لا أخلاق ولا دين ولا مثل عليا ولا حتى إنسانية، وليست مبالغة إن قلنا إن العدمية التي رأها نيتشه لم تكن إلا شيئا لطيفا جدا مقارنة مع العدمية التي نعيشها في عالمنا اليوم، فكل شيء فيه معدم وكأنه غير موجود أساسا، وإن كان موجودا ليس له أثر، وكما يقال خالي الدسم منزوعة الروح منه ولم يبق فيه إلا هياكل وأجساد تذروها الرياح. وليس هناك شك بأننا نعيش مرحلة بالغة القتامة كل شيء فيه مختلف ومتغير، كل شيء فيه مقلوب رأسا على عقب، وكثير من الأشياء فقدت معناها وحقيقتها وأفرغت من مضمونها وتلك الأفكار العظيمة التي قامت عليها البشرية وتجلت فيها الإنسانية وبنيت عليها الحضارات أصبحت خواء فارغة وكأنها صفائح معدنية تصفر فيها الرياح، كل شيء غير موجود. ليس إلا الفوضى والدمار، وأصبح التوحش سمة وميزة النظام العالمي، بل أخذ منحنيات مختلفة ومتطورة من حيث وسائله والأشخاص القائمين عليه ويدار بعقلية متطورة جهنمية ليس لها هم إلا نشر الدمار والفوضى فابتدعت طرقا جديدة وناجعة في إدارته يعمل جاهدا على خلق الوسائل الكفيلة بما يضمن استمراريته وتطوره وتقدمه في الهيمنة على الشعوب وثرواتها.

الأخلاق والإنسانية والروحانية مكمن حياة الأمم والشعوب وديدن الحضارات. الغرب الذي يتآكل ويموت أخلاقيا بسبب ما خلفه من تدمير لبنيته الأخلاقية وبسبب الحروب التي أشعلها في كل بقاع العالم ونهبه لشعوب العالم واستعمارهم ها هي البذرة توشك على النضوج وربما تقترب من مرحلة الفناء والتلاشي وذلك بشهادة أبنائها ولا نزايد على ذلك، وهذا مآل كل الحضارات وسنن كونية طال عليها الزمان أو قصر.

أمام هذه الانزلاقات والتحولات الفكرية العميقة والكبيرة التي تعصف بالعالم والالتهامات المتوالية والأفاعي التي تتناسل وتتكاثر يبدو أن العالم مقبل على عملية التهام كبير الذي بدأت إرهاصاته للعيان مما سيدخل العالم في دوامة أخرى من الصراع وقد تكون هذه المرة صراعا بين ثلاث حضارات هي حضارات بحسب ما تنبأ به صمويل هنتجتون في كتابه (صراع الحضارات).

د. بدر الشيدي قاصّ وكاتب عماني