آفاق الرأي العام بين صحافة الوطن وصحافة المواطن

02 مايو 2021
02 مايو 2021

ولأن الإعلام إحدى الوسائل الرئيسة في تشكيل الرأي العام، وبما أن الصحافة أحد الأعمدة الرئيسة للإعلام، فقد نالت النصيب الأكبر من النقاش والتساؤل وأضحت القضية الأهم في النظر إلى ما اعترى الرأي العام من تطورات في عصر وسائل التواصل الرقمية، وفي العمق منها العلاقة بين ما يمكن تسميته صحافة الوطن وصحافة المواطن، هل هما متميزان وحسب عن بعضهما البعض، أم مختلفان إلى حد التضاد والتنافر، وهل من الأجدى للمجتمع والدولة البحث في المشكلات والتناقضات التي يعاني كل منهما منها، وإذا كانا متنافرين فما هو العمل على تجسير الفجوة بينهما؟.

ما يدعو إلى التدبر في قضية كهذه، الأهمية المتزايدة للإعلام في زماننا المعاصر ليس في منطقتنا العربية فقط، وإنما على الصعيد العالمي كله، بما يعنى أنه أضحى إحدى الأدوات السياسية التي يتنافس عليها الجميع للتعبير عن القوة والتأثير في الآخرين، أفرادا أو جماعات أو دولا، سواء يتم اللجوء إليها انطلاقا من رسالة تحمل كل معاني الخير، أو من أخرى مضادة لا تحمل سوى كل علامات الشر.

ومع أن للإعلام عالمه الواسع والمتنوع الأغراض وأدواته المميزة حيث الاعتماد على الصورة التي هي من أقوى عوامل الجذب والتأثير بالنسبة للمتلقي، إلا أن الصحافة لا تزال هي القوة المحركة للإعلام وظيفتها الرئيسة هي تزويد الناس بالأخبار والمعلومات عن الأحداث الجارية بكل أنواعها والكشف عما يخفي على العامة والقيام بمهمة التفسير والتحليل لما وراء الأخبار والكشف عن المعلومات والحقائق.

ولأن الإعلام مستغلًا أدواته المؤثرة في نفس وقت الحدث مهتم بدوره بأن يكون الوسيلة الأسرع في القيام بمهمة الإخبار، فقد لجأ إلى كل فنون الصحافة ليحقق هذا الغرض، وليس من المبالغة القول إنه من الناحية الواقعية والعملية قام الإعلام باختطاف الصحافة!

وفي هذا الإطار يمكن القول بثقة شديدة إنه برغم تراجع الصحافة من حيث معدلات التوزيع لأسباب مالية قبل أي شيء آخر، تستوي في هذا أوضاعها في الدول المتقدمة أو الأقل تقدما، فإن الأداء المهني للإعلام المعاصر هو الأداء الصحفي المعروف، ولذلك فإن أي حديث عن واقع الإعلام ومشكلاته هو في الأغلب الأعم حديث عن واقع الصحافة ومشكلاتها.

لقد تعلمنا في دراساتنا الجامعية منذ زمن طويل ما هو المقصود بالاتجاه وبالرأي وكيف تتم صناعة الآخر بشكل طبيعي أو مفتعل، وكيف يصبح الإعلام إحدى وسائل الحرب بين الدول، وفي مسارات أخرى تتعلق بتطور المجتمعات كيف يصنع الإعلام وعيًا زائفًا أو وعيًا حقيقيًا.

فالاتجاه هو استعداد أو ميل لتقبل وجهة نظر معينة ومرتبط دائما بالمشاعر المسبقة لدى المرأ لتفضيل اختيار دون الآخر، وأما الرأي فهو اتجاه خضع للمناقشة والتفكير العميق العقلاني حتى وصل إلى اتخاذ حكم تجاه التعامل مع فكرة مطروحة للنقاش أو تجاه شخص بعينه، ولذلك فإن الاتجاهات تساعد على استشراف موقف ما ولكنها من الوارد أن تتغير سريعا مع مستجدات بعينها، بينما الرأي يعد بمثابة الحكم أو القرار تجاه مشكلة أو فرد لأنه خضع كما أوضحنا للتمحيص والتدبر.

وعلى ذلك فإن الرأي هو المؤثر في صياغة السياسات والمواقف من الأحداث، بينما لا يملك الاتجاه هذا التأثير، والرأي العام هو وجهة النظر التي لاقت تأييدا من غالبية الناس وليس فئة أو مجموعة بعينها، وبالطبع يختلف جذريا عن الرأي الخاص الذي هو تعبير عن وجهة نظر فرد أو شخص بعينه.

وحيث أوضحنا أن الرأي العام هو الذي يمثل رؤية وموقف أغلبية عريضة من الناس، فإن هذا يعني أننا نتحدث عن تصور نسبي، فمن المؤكد أن الناس لن تجمع كلها على رأي أو موقف محدد، فسيظل هناك فريق يختلف مع الأغلبية، وبالطبع له احترامه والاعتراف به ولكنه من حيث التأثير لن يجدي في ترجيح العمل بوجهة نظر معينة هي تلك التي عبرت عنها الأغلبية.

ولكن المشكلة أنه في زماننا المعاصر وبسبب الإمكانيات المتعددة والأشكال المختلفة التي أتاحتها وسائل التواصل الرقمية ولم تكن موجودة من قبل أصبحت لدينا صور جديدة للتعبير عن الرأي تأخذ في بعض المناسبات والأوقات مكانا إما قريب من رأي الأغلبية أومشتبكا معه إلى حد التشكيك فيه، وغالبا ما تعبر جماعات أو تيارات معينة عن هذه الصور، وتعمل على إشاعة الانطباع بأنها هي المعبرة عن الرأي العام، بل هناك صورة أخرى تتعلق بنشاط أفراد حققوا انتشارا عبر الوسائل الجديدة، كثيرون يعتبرونهم أيقونات تدافع عن رأي أو موقف معين ليس بالضرورة هو رأي أو موقف الأغلبية أو مجموع الأمة.

وبما أن الصحافة هي «الدابة» الأمهر التي يحملها الإعلام لتحقيق رسالته بجانب «دواب» أو أدوات أخرى تتحقق من تنوع الإمكانيات المختلفة للتعبير التي تتوافر من طبيعة الإعلام فقد أصبحنا أمام نوعين من الصحافة، صحافة الوطن وصحافة المواطن، وكلاهما في الواقع اندمج في الإمكانيات التي تتيحها التكنولوجيا الرقمية في عالم الصحافة والإعلام.

النوع الأول يدافع عن ثوابت الوطن ومنجزاته وتشكيل الوعي الوطني الجمعي الذي يتصدى للتحديات المعاصرة التي تهدد وجود الدولة والمجتمع، ويلتزم بمعايير الصحافة كما عرفها أهل العلم واعتاد عليها الناس برغم تغير الزمان، ويؤدي وظيفته عبر مؤسسات، والثاني لا ينطلق من هذه المعايير لأنه يعتمد على مواطنين بوصفهم أفرادا مستقلين لم يتعرفوا على معايير الصحافة وتحديدا ضوابط التأكد من الخبر والشعور بالمسؤولية عن قيمته من ناحية وعن تداعياته السلبية من ناحية أخرى إن لم يكن صادقا، فقط ينطلقون من الرغبة في إيجاد ما يسمى بالإعلام الموازي استنادًا إلى التشكك الدائم في الإعلام التقليدي.

ويرون أن وسائل التواصل الجديدة أتاحت تلقائيًا الفرصة للقيام بمهمة الإخبار والتعليق على الأحداث دون قيود أو تقاليد حاكمة. وهي صحافة لا تخرج عن كونها رأيًا خاصًا لا عامًا حيث لا تعبّر إلا عن رؤية الفرد الذي يستخدمها، ولكن هناك ما يعطي لهذه الصحافة -بغض النظر عن عدم التزامها بالتقاليد الصحفية- أهمية ومن ثم انتشارًا وجاذبية عند المواطن المهتم بالشأن العام وغير المهتم أيضا، ومصدر الأهمية هنا هو سرعة الإبلاغ عن الحدث صوتا وصورة كما هو دون رتوش.

ومهمة كهذه مهمة وضرورية في عالم أصبح قرية صغيرة تتفاعل فيه المشاعر والآراء بين الناس بشكل تلقائي وسريع، وغالبا ما تنجح صحافة المواطن في لفت الانتباه لعديد الأحداث المؤثرة في الحياة اليومية للناس.

والملفت أن الصحافة والإعلام عموما كثيرا ما يلجأ إلى نشاط صحافة المواطن لمتابعة التطورات، وهناك من يدافعون عنها أيضا من منطلق أنها تعزز الشفافية والحريات في المجتمع وتراقب إلى حد الاتهام نشاطات الحكومات ومن ورائها الصحافة والإعلام التقليدي.

وفي مواجهة صعود صحافة المواطن وما تحققه من انتشار، انتبهت الصحافة التقليدية سواء كانت مكتوبة أو تجرى ممارستها عمليا من خلال أدوات الإعلام الإخبارية، إلى مصدر نجاح هذا النوع من الصحافة الوليدة (واقعيا لا يجرى الاعتراف بها رسميا) وهو استخدام الآلية العجيبة التي جاءت بها وسائل التواصل والتكنولوجيا الرقمية والمعروفة بجهاز المحمول، فراحت تسابق الزمن في التواجد بالطريقة نفسها من خلال ما يعرف اليوم بالمواقع الإخبارية، حيث كثيرا ما نجد صحفا ورقية وقد أقامت مواقع لها على الإنترنت بها كل صنوف العمل الصحفي وهي جاهزة سريعا لتحقيق السبق في التعريف بالخبر وما يرتبط به من تحليلات وتعليقات، كما ظهرت المواقع المستقلة أي القائمة بذاتها وليست مرتبطة بصحيفة ما، وبهذا المعنى لن تنتهى صحافة المواطن حيث لا يمكن التحكم في طرق استفادة الفرد مما أتيح له من إمكانيات للتواصل عبر الوسائل الجديدة، ولا يصح التدخل لإيقافها إلا لو خالفت صريح القانون وهددت ما هو خاص وما هو عام، ولكن تصويب أخطائها يتحقق بتعزيز صحافة الوطن خاصة بعدما اقتحمت نفس ملعب صحافة المواطن، وبوجه عام فإن المواطن رشيد بطبعه ويستطيع أن يفصل بين ما يتلقاه من خطأ أو صواب. وكلما كانت صحافة الوطن على قدرٍ عالٍ من الكفاءة المهنية ضاقت الفرص أمام ما هو غث من صحافة المواطن، وبذلك يمكن تحرير الرأي العام من المشكلات التي يتعرض لها في زمن التحولات الكبرى ليكون المؤشر الحقيقي على مستوى التطور المجتمعي والسياسي مما يسهم حقا في صياغة واتخاذ السياسات الصحيحة.

________

** ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة

إلى ما قبل ظهور وسائل التواصل الجديدة التي جاء بها عالم الإنترنت أو الفضاء الإلكتروني والتكنولوجيا الرقمية، كان للرأي العام معنى محدد ووسائل بعينها لصناعته وتأثير محدد أيضا في صنع القرارات السياسية واتخاذها، وفي تجسيد اهتمام الشعوب بالحياة السياسية بوجه عام، ولكن بعد ظهور هذه الوسائل حدثت مستجدات عدة كان من شأنها إثارة تساؤلات حول ما إذا كان الرأي العام لا يزال محتفظا بدوره وتأثيره، وما الفرق بينه وبين صور أخرى أفرزها الواقع المعاش للتعبير عن وجهة النظر، سواء تعلقت بجماعة، أم بفرد بعينه، يحمل رأيا خاصا مؤثرا حتى لو لم يكن يمثل تيارا بعينه، أو لكونه يمثل أيقونة بين النخبة في زمن ما.