نوافذ: مباهج الكتابة وأوجاعها
كان إرنست هيمنجواي في ردح كبير من عمره يتحفظ عن الحديث حول الكتابة وصنعتها وأسرارها اعتقادًا منه أن ذلك يجلب له الحظ السيئ ويُبعد عنه الإلهام، ولن نستغرب ذلك إذا ما علمنا أنه يعتبر الكتابة عملًا شاقًا لا يمكن للمرء أن يزاوله على أتمّ وجه أبدًا، وأنها - أي الكتابة - ثاني أصعب عمل في الحياة بعد مصارعة التماسيح؛ «إنها لَتَحَدٍّ دائم، وهي أصعب من أي شيء قمتُ به على الإطلاق». إلا أنه تخلى في سنواته الأخيرة عن هذا التحفظ وبدأ يكتب عن الكتابة، ويُدلي بآرائه حولها، سواء في بعض كتبه أو رسائله الخاصة. وهو ما حدا بالكاتب والصحفي الأمريكي لاري فيليبس أن يجمعها من هذه الكتابات المتفرقة ويُصدرها في كتابٍ واحد صدرت مؤخرًا ترجمته العربية عن «منشورات حياة» بعنوان «مباهج الكتابة وأوجاعها» بترجمة جوهر عبدالمولى.
في إحدى رسائله يقول هيمنجواي إنه «حتى وإن قرأت نصًّا مكتوبًا بشكل جيد مرارًا وتكرارًا، فلن تستطيع أن تكتشف كيف تمّت كتابته، ذلك أن هناك سرًّا يكمن في كل النصوص الجيدة، وذلك السرّ هو الذي يمنعنا من تحليلها. لذا تبقى على حالها، وهي دائمًا سارية المفعول. كل مرة تعاود قراءتها ترى من خلالها شيئًا لم تره من قبل أو تتعلم شيئًا جديدًا منها». وإذا ما أردنا مثالًا على هذه النصوص المكتوبة بشكل جيد فستقفز إلى الذهن على الفور روايته الشهيرة «العجوز والبحر» التي كُتِبَ عنها وعن رمزيتها عشرات المقالات النقدية، وأهلته للفوز بجائزة نوبل، ومع ذلك فإنه يقول عنها في رسالة إلى الكاتب ومؤرخ الفن الأمريكي برنار برنسن: «لا وجود لأي شكل من أشكال الرمزية فيها، فالبحر هو البحر، والرجل العجوز هو الرجل العجوز، والصبيّ صبي والسمكة سمكة. وأسماك القرش جميعها سواسية. كل هذه الرمزية التي يتحدث عنها الناس هي تُرّهات فحسب».
يرى هيمنجواي أن «الكتابة في أفضل حالاتها هي حياة مبنية على العزلة»، وأن على الكاتب أن يتمتع بموهبة غزيرة، وأن يتحلى بالانضباط، وأن يكون ذكيَّا ونزيها، وذا ضمير مستيقظ على الدوام ليحصنه من الزيف، وأن يتعلم كيفية الصمود في وجه التحديات التي تقف في وجه كتابته. ومع ذلك «ليس هناك قاعدة ثابتة تضبط كيفية الكتابة. ففي بعض الأحيان تكون سهلة ومثالية. وفي أحيان أخرى تكون أشبه بحفر الصخور ونسفها بالمتفجرات».
ولا تخلو بعض آراء صاحب «لمن تقرع الأجراس» حول الكتابة مما يشبه التناقض، ففي موضع من الكتاب ينصح الكاتب بالإنصات للآراء المختلفة حول كتابته لأن «عدم الإنصات هو الذي يحول الكاتب إلى نهر نضبت مياهه»، لكنه يقول في موضع آخر: «بمجرد أن بدأ الحديث عن كتاباتي توقفتُ عن الإنصات له. أشعر بالغثيان عندما يتحدث الناس عن كتاباتي في حضرتي». بل يذهب أبعد عندما ينصح بتجنب قراءة المقالات النقدية وعدم الاكتراث لما يصفه بــ«نباح النقاد».
كان الحذف واحدًا من مهارات هيمنجواي في الكتابة، ذلك أنه يؤمن أنه «عندما يكون مؤلف الرواية أو القصة ملمًّا بعمله كما ينبغي، يجوز له أن يحذف منه أشياء يعرفها، وإذا كان يكتب بصدق حقا، سيشعر القارئ بهذه الأمور المحذوفة بالشدة ذاتها كما لو كان الكاتب قد عرضها بوضوح»، ويخبرنا أنه حذف من أحد كتبه مائة ألف كلمة تقريبا. أما عن عاداته في الكتابة فيقول إنه عندما يذهب إلى الكتابة في الصباح فإنه لا يقرأ أي كتاب قبلها، لكي يتمكن من مواجهة عملية الكتابة من دون أي مساعدة أو تأثير من أحد. ويرى صاحب «وداعًا للسلاح» أن الحرب أفضل مصدر للمادة الأدبية، فهي تجمع للأديب أقصى ما يمكن منها، وتُسرّع الأحداث وتخلق الوقائع والأشياء الكثيرة التي عليه عادةً أن ينتظر حياة بأكملها قبل أن يحصل عليها، «كل ما فعلتُه في الحرب العالمية الأولى كان الإنصات إلى أحاديث الرجال، خاصة في المستشفى ومرافق النقاهة، إذ إن تجاربهم كانت أكثر وضوحًا من تجاربي. على الكاتب أن يختلق الأحداث مستندًا إلى تجربته الشخصية وتجارب الآخرين».
تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يعرض لنا كيف ينظر واحد من أهم أدباء العالم إلى الكتابة وعوالمها وأسرارها، ويتيح لنا التعرف على أسلوبه في الكتابة، والتعلم من تأملاته ورؤاه العميقة في الأدب.