صديقنا المكتئب: زياد الرحباني

20 ديسمبر 2025
20 ديسمبر 2025

كأن الموتَ ما كان، وكأن زياد ما زال يصلحُ صديقًا، صديقًا لكل واحد منا على حِدة. ليتني أنجح بالضبط في وصف تلك الأواصر والصلات الشخصية الخفية التي تنشأ بين الفنان وكل فرد من جمهوره، والتي تحول العرض الجماعي العام، أكان مسرحية أو موسيقى أو محاورة تلفزيونية - كما في حالة زياد، إلى وسيلة تواصل شخصي وحميم لا يتحقق أحيانًا حتى في أكثر علاقاتنا قربًا مع الأصدقاء وذوي القربى. لا بدَّ من القول إنها ميزة لم تُتح لأي فنان كان مثلما أتقنها زياد من غير جهد أو قصد وبكل خفة السحرة. ورغم أن هذه الميزة، في الوقت نفسه، كانت تناقض ما عُرف عن حياته الخاصة من وحدة وميلٍ للانطواء والابتعاد داخل دائرة صغيرة من المقربين، والتي كانت تضيق يومًا عن يوم مع تقدم العمر و«ضيق الخلق» ورحيل الأصدقاء الأقران إلى الموت. إذ لم يكن ابن عاصي وفيروز، الحاد المزاج، شخصًا يجيد إدارة العلاقات العامة بما تتطلبه مَلَقٍ وتوددٍ زائف ولزوجة في الطِباع. وما كان لمثله أن يمتلك الدأبَ ولا الطاقة الاجتماعية في التعامل مع عدد أكبر من العلاقات اليومية المباشرة إلا بقدر ما تفرضه عليه الطبيعة الجماعية والاجتماعية في شغل الموسيقى والمسرح.

بذَا المعنى، يصبح من حقنا كلنا أن ندعي صداقةً خاصةً بزياد، وما أحلانا حين نأتي متأخرين في كل مرة كي ندَّعي صداقةً خاصة بمن مات قبل قليل: «ياه ما أحلاكم شو حلوين»! أما صديقنا الطائش عن النغمة السائدة، فكان يغرق في وحدة لا نهائية، وحدة فرضها اعتلال الجسد ربما، أو فرضتها كآبته من كل شيء، بدءًا من واقع البلد الغارق في فشله المزمن إلى غياب الاستقرار العاطفي مع أنثى تؤويه وتسكّن قلقه، أو ربما من انسدادِ شهيةٍ في علاقته بالموسيقى التي لم يجد سواها مبررًا لوجوده. على أية حال، لا تحتاج الكآبة في حاضرنا إلى مبرر ولا إلى تعليل. وما كان زياد من الناس الذين يسوّقون لكآبتهم في المقابلات التلفزيونية. كنا نعرف أنه شخصية مكتئبة من غير أن يبوح.

غيَّرَ شكل النقد السياسي الساخر في لبنان والعالم العربي بموهبته الفطرية في تحويل كل شيء إلى مادة للسخرية، وأغرى -بالطبع- المقلدين بالتقليد الفاشل. كان يمرر التأفف والشكوى في نكتةٍ مرتجلة لا تُضحِك بالضرورة بقدر ما تُدهش، بل تتطلب أحيانًا إعادة المقطع مرة أو مرتين قبل التقاطها، ناهيك عن كونها تتطلب وعيًا محليًا خاصًا بالسياق اللبناني المعقد. وكم يدهشني في حواراته التلفزيونية تفصيل نادر - هو ليس بالتفصيل في الحقيقة: حين يدخلُ محاوره في سؤال جديد فيرد عليه زياد مسترسلًا في الإجابة عن السؤال السابق بكل برود. ويجره المذيع إلى سؤال أو سؤالين لتجاوز تلك النقطة، لكنه يواصل إكمال فكرته وكأن شيئًا لم يكن. (شاهد على سبيل المثال حواريه، الأول والثاني، مع الراحلة جيزال خوري في برنامجها «لقاء العمر»)

زياد، المعلق السياسي الساخر الذي اتُهم مرارًا بأنه لا يعجبه شيء، كان يبشر بالهاوية منذ منتصف السبعينيات بسخرية قلَّ مثليها، صريحة ومبطنة ومكثفة بالإحالات والإيماء فيما يشبه الشعر. وأعتقد أن الحرب الأهلية اللبنانية، التي مثَّلت دائمًا نقطة مرجعية في كلامه عن حياته وعن لبنان، كانت قد شكلت الجزء الأهم من هويته النفسية والسياسية والفنية، وهي التي دفعته بجرأة للانقلاب على نوستالجيا القرية اللبنانية التي أسسها الرحابنة. لقد أوقعته الحرب في فخ الحالة اللبنانية إلى الأبد. فكيف كان سيبدو مشروعه الفني لو أنه قرر العيش خارج لبنان؟ لا أتصور أن شخصًا مثله لم يتلقَّ عروضًا مغرية لمغادرة البلد، على الأقل إلى مكان لا تنقطع فيه الكهرباء يوميًا وفي أي وقت، لكنه آثر البقاء في شقته المتواضعة بشارع الحمرا.

بعد أسبوع من رحيله كنتُ في بيروت، وكان غيابه مهيمنًا عليَّ وعلى المكان ورواد المقاهي. كنت أفكر فيه: كيف قضى آخر السنوات بعد ظهوره الأخير؟ وكيف كان يتابع فجائع الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان؟ وكيف تلقى شخص مثله الصدمات المتتالية بانهيار محور «الممانعة» الذي انحاز إليه وحورب بسببه وخسر الأصدقاء؟ وأفكر به وهو يسمع دوي الانفجارات في الضاحية، قبل أن يبلغه خبر استشهاد حسن نصرالله الذي كان زياد وأمه فيروز من أشد المعجبين به!

صورُه على الجدران وموسيقاه تتسرب من مقاهي الحمرا وتتمشى مع الناس في الطرقات. كنت أسمع «ميس الريم» تصدح من اتجاهات متعددة قادمة من أكثر من مصدر. ولا يتوقف الناس عن تذكُّر آخر مرة شاهدوه فيها نازلًا من بنايته، سائرًا في الشارع، داخلًا إلى متجر هناك، ثم عائدًا إلى البيت بكيس أغراض. كان أسبوعًا استثنائيًا في بيروت التي شهدت طقسَ وداع لا يليق إلا بعبقرية فنية، عبقرية أنجبت نفسها بنفسها بقدر ما صنعتها ظروف النشأة والتكوين في البيت الرحباني.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني