الطريق إلى «لؤلؤة القوقاز»

17 ديسمبر 2025
17 ديسمبر 2025

كلّما عدت إلى الوراء في بدايات تعرّفي على أدب الرحلات الذي يستهويني، قراءة وكتابة، أتوقّف عند كتاب (ألف ميل بين الغابات) للكاتب الراحل محمّد شمسي، الصادر عام 1976م، وهو أوّل كتاب قرأته مبكّرا في هذا النمط من الكتابة، وأتذكّر كيف شدّتني تلك الرحلة التي قطع خلالها على دراجة نارية ألف ميل أمضاها بين غابات أفريقيا، وصرت أبحث عن كتب الرحلات التي لم تكن في تلك السنوات البعيدة متوفّرة مثلما اليوم، فأدب الرحلات لم ينشط بشكله المتداول الحديث إلّا قبل ثلاثة عقود، وخلال تلك السنوات كانت معظم الرحلات تدوّن على شكل انطباعات في مقالات تُنشر في المجلات والصحف، وفي كتابه (جورجيا لؤلؤة البحار) يبدي الدكتور أحمد عبدالمجيد ندمه على ضياع فرص توثيق رحلات قام بها إلى دول عديدة، لكن الرغبة الصادقة في الكتابة لم تأت إلا بعد زيارته جورجيا «أو ما توصف بأنها (لؤلؤة القوقاز) وعاصمتها الجميلة تبليسي (مدينة الينابيع الحارة)»، وبعد انتهائه من المقالات التي نشرها في جريدة (الزمان) على شكل حلقات، أحسّ أنه وضع قدمه على الطريق الصحيح، فجمعها في كتاب نشرته المطبعة العربية ببغداد 2013م ويدوّن الكاتب الراحل حميد المطبعي على الغلاف الأخير للكتاب عن المؤلّف أنّ «أهم ما في كتاباته أن الواقع يتغير فيها تغيرات متحوّلة، وينتقل فيها الواقع من زمن إلى زمن آخر، كأن الكاتب يحمل كاميرا سحرية يصوّر بها باطن الشيء.. إنها الكتابة التي تحوّل التاريخ إلى بضع كلمات يردّدها عشّاق الطبيعة» لكن الدكتور أحمد عبدالمجيد الفائز بجائزة ناجي جواد الساعاتي لأدب الرحلات -2025م عن كتابه (يوميات أرمينيا.. بلد الكنائس والمتاحف والمشاهير) وقع في عشق طبيعة جورجيا، وهذا يبدو واضحا في كتابه، يضيف المطبعي «في رحلته إلى جورجيا كشف عن مؤهلاته الكتابية المتميّزة وقدم مهاراته في كشف المستور في تاريخ المدن، والناس، والطبيعة، وأعاننا على فهم الناس في جورجيا».

يبدأ الدكتور أحمد عبدالمجيد الرحلة ابتداء من دخوله مطار (تبليسي)، وتأخّر وصول الحقيبة، وعرف أنها وصلت، لكنها تتعرض للتفتيش، خشية إدخاله مواد ممنوعة، ثم يتحدّث عن الشرطيّة الرقيقة المكلّفة بتفتيش الحقيبة، واستفسارها عن محتوياتها التي تبدو غريبة بالنسبة لها للاختلاف الثقافي، وخاصة استغرابها من الحلوى العراقية، ثم تطبق الحقيبة، وتأذن له بالدخول، ويبدأ بتدوين انطباعاته الأولى عن الدولة التي انفصلت عن (الاتحاد السوفييتي) السابق، ويتحدّث عن مروره بنهر (التكواري) الذي ينبع من جنوب تركيا ويقسّم العاصمة إلى قسمين، مثلما يفعل دجلة في بغداد المقسومة إلى كرخ ورصافة.

وتدهشه حركة الحياة في العاصمة التي تفتح ذراعيها لاستقبال شعوب العالم التي تتناغم مع قلبها النابض بالحياة، وتلفت نظره كلمة مكتوبة باللغة العربية على جدران المطاعم هي (حلال) في إشارة إلى أن اللحوم مذبوحة على الطريقة الإسلامية، وعادة ما تكون هذه المطاعم مزدحمة بالعرب، فيسهب في الحديث عن جمال العاصمة الجورجية التي تقع «وسط سلسلة جبلية تحيط بها من جميع الجهات ولعل المراقب لتضاريسها يكتشف قدرة الإنسان الجورجي على استثمار هذه الخاصية في تحقيق أبعاد جمالية للمدينة» هذه الطبيعة ألقت بظلالها على روح أهل البلاد، فالجبال مكسوة بأشجار الصنوبر والبندق.

وهذه الخواص لا تستأثر بها العاصمة، بل وجدها في مدن أخرى صغيرة زارها ولفتت نظره نظافتها، واحترام القوانين، وجدية الشباب حتى في أماكن اللهو «يلهون ببراءة بلا إيذاء أو إزعاج زبون يشاركهم الوقت» أمّا اللغة التي تمثل القاسم المشترك الذي يجمع القلوب والعقول ويحول دون وقوع توترات نفسية فهي لغة الموسيقى، ولجورجيا فرقة فولكلورية ذات حضور دولي.

ويبدي حرصه على زيارة مسقط رأس ستالين في مدينة كوري التي تقع على مسافة 100 كم من العاصمة تبليسي، ويتّجه نحو متحف (الرجل الفولاذي) وهو متحف يضمّ مقتنيات ستالين، المشيّد على طراز العمارة القوطية، وكونه صحفيّا فقد لفتت نظره لقطات للأعداد الأولى للصحف التي وثّقت ثورة روسيا على القيصر عام 1917م ويوصف ستالين بأنه «باني الإمبراطورية الجديدة على أنقاض روسيا القيصرية الغارقة بالفوارق الطبقية والفساد»، ويذكر حكاية رويت عنه عام 1902 ألقى فيها قنبلة يدوية وقعت بين قدمي القيصر أثناء عمله في قصره وتابع عمله كأن شيئا لم يكن!! وبعد انتهاء زيارته للمتحف شاهد منسوجات يدوية تحمل صور ستالين وأبرز الهدايا المقدمة إليه، ومر بكشك يبيع التذكارات الشخصية، فاشترى تمثالا صغيرا من النحاس وكوبا من الخزف موشحا بصور له.

ويختتم كتابه بملحق للصور توضّح أبرز معالم جورجيا وتختصر الكثير من المشاهد التي رآها في هذه الرحلة الماتعة.