ذلك القارئ الذي نخاف ونرجو
ينشأ الأدب من ذلك التفاعل السحري الحي والمتواصل بين كاتب يكتب من موقعه المكشوف بهوية معرَّفة مُقابل قارئ مُتخيل يقيم مع العامة في العتمة السائدة. في صورة أخرى، تشبه العلاقة الجدلية بين الكاتب وقُرائه ما يحدث على المسارح ضمن مساحة تبادلية أضيق أفقا وأكثر اختزالا وكثافة. إنني أحيل إلى تلك العلاقة التي تنمو على خيط رفيع من «الارتياب» المتبادل بين المتحدث المسرحي على الخشبة وجمهوره الذي يحتل ظلام المدرجات المحتشدة بتوقعات تطالب بمزيد من الإرضاء. غير أن ما يميز الحالة المسرحية عن الأدب (قراءة وكتابة) هو استجابتها التلقائية وتفاعلها المباشر مع المتحدث المسرحي (مُنتج المادة الاستعراضية) على عكس ما يحدث بين الطرفين الشريكين في إنتاج وتشغيل العملية الأدبية (الكاتب والقارئ) عبر التاريخ الطويل من الكتابة والقراءة، حيث يبقى الكاتب على بُعدين من زمن ومكان يفصلانه عن تعليق القارئ. إنها المسافة التي يتدرَّع بها الكاتب حماية لهشاشته، وهي المسؤولة عن حمايته إن دَعَتِ اللحظة من المصير المروع الذي لقيه سلمان رشدي في أغسطس من العام الماضي، بعد أن غامر -كما يفعل أي كاتب في الحالة الطبيعية- بالدخول إلى تلك المسافة الحرجة مع الجمهور، جالسا في مجال نظر قُرائه على خشبة مسرح بمدينة نيويورك. رغم أن القارئ المفترض، المدان بمحاولة اغتيال صاحب «آيات شيطانية»، كان قد صرَّح بعد الجريمة أنه لم يقرأ سوى صفحتين من الرواية!
نفهم من محاولة اغتيال سلمان رشدي من قِبل قارئ مُفترض ما كان علينا أن نفهمه من محاولة اغتيال نجيب محفوظ عام 1995؛ أي حجم التهديد الذي يُمثله سوء الفهم في حركة القراءة والكتابة، سوء الفهم الناتج عن قراءة ناقصة أو جهولة، أو الناتج في أحيانٍ كثيرة عن رفض القراءة أصلا، كما حدث مع سلمان رشدي ونجيب محفوظ. ولعل هاتين الحادثتين، إلى جانب اغتيالات مشابهة كثيرة، تقوداننا للبحث فضولا في تاريخ الأدب عن كاتب مطعون بيد قارئ حقيقي مُخْلِص وصادق!
يبدو أن عنف القارئ، مهما كانت أشكاله ومستوياته وطرائق التعبير عنه، هو نوع من الاحتجاج على سلطته المفقودة في ظل الكاتب الذي يفرض هيمنته على قُرائه داخل النص وخارجه، حيث يمكننا أن نلاحظ ذلك في عالم النشر، في الكتب والحوارات الصحفية وفي وسائل الإعلام عندما يقدم الكاتب بوصفه جوهر العملية الأدبية برمتها، بينما القارئ ليس سوى عنصر مستهلك محكوم بشروط دورة الإنتاج الرأسمالية. في المقابل، هل يمكن القول: إن هيمنة الكاتب هي تعبير عن قلقه من مزاحمة القارئ على سلطة الحقيقة والقول والمعنى والتأويل؟ وكيف لهذه الهيمنة أن تصنع قارئا اتكاليا مُثبِّطا وتجعل من القراءة محض عمل تطفلي، مستهلك للنص دون أن يكون شريكا في إنتاجه بتعدد القراءات وفتح نوافذ التأويل؟
لم يُنتج تهميش القارئ خلال العقود الأخيرة من الثقافة العربية سوى الزبد أو الكتابة الفائضة عن حاجة الأدب: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)). إن وجود قارئ مُتخيل على الضفة الأخرى من النص شرط ضروري لتحويل الكتابة من عملية أحادية ذاهبة في اتجاه واحد إلى عزف ثنائي، دون أن يعبر فيه أحد بالنيابة عن أحد، إلى أن تبلغ الكتابة حلمها الذي تنبأ به (مالارميه) ووصفه (رولان بارت) بقوله: «حيث اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف، حيث يصبح معنى الكتابة هو بلوغ نقطة تتحرك اللغة فيها وحدها وليس «الأنا». ولكن المعضلة هي أن يتنازل هذا القارئ المتخيل الواقف على الضفة الأخرى من النص عن دوره الخلاق ككاتب ثان له، مكتفيا بلعب دور الرقيب المتربص. ولنا في تراث الأدب العربي تاريخ طويل مع هذا النوع من القُراء. يحدثنا عبدالفتاح كيليطو في كتابه «الأدب والارتياب» عن القارئ الرقيب وأثره في تقليم الطبعات الحديثة من «طوق الحمامة» لابن حزم، أحد شواهد النثر العربي على الحب وبواعثه وشجونه، الذي بقيت جرأته سر صيته الفريد من بين سائر كُتب التراث. يعرِّج كيليطو على ما جاء في مقدمة الكتاب بتحقيق الطاهر أحمد مكي الذي حرص على أن يُصْدر «الطوق» كاملا بلا حذف: «إن ما يرتضيه ابن حزم «...» وما يقبله ذوق المسلمين في قرطبة الزاهرة، عاصمة الأندلس أيام الخلافة، وما بعدها، في القرن العاشر الميلادي وما تلاه، ليس تدينا ولا ورعا ولا تطورا ولا محافظة أن ترفضه قاهرة القرن العشرين ورائدة النهضة في العالمين العربي والإسلامي، ومن هنا أبقيت النص على حاله كاملا». فيتساءل كيليطو عن تحولات القارئ العربي منذ قرطبة القرن الخامس الهجري إلى القاهرة في أيامنا هذه. ألم يكن ابن حزم -كما يقول كيليطو- متخوفا من ردود فعل قُرائه؟ ألم يحمله هذا على نوع من الرقابة الذاتية الصارمة أثناء الكتابة؟ وهل لجأ لحيلة ينسب فيها بعضا من قصصه وتجاربه مع النساء لرجال آخرين ليبعد الريبة عن شخصه كمؤلف؟
إن النص بكامل إمكانياته الدلالية هو شفرة تواصلٍ بين الكاتب والقارئ، وربما كان جسر عبورٍ من القراءة نحو الكتابة أو العكس. وباعتقادي أن إشراك القارئ في إعادة كتابة الكتابة هو أحد أسمى مطامح الأدب الذي يكتمل مع استعادة القارئ بإعطائه مركزا جديدا في العملية الأدبية بعد تحريره من الدور الذي فرضه عليه النقد الكلاسيكي الداعم والمؤكد دائما لهيمنة الكاتب/ المؤلف. ولعل هذا المبدأ يمثل أهم إنجازات «البنيوية» التي جاءت مطالبة بالتعامل مع النص كباحة مفتوحة على داخلها مقفلة عن الخارج. لكن «البنيوية» تتطرف قليلا على يد رولان بارت الذي ختم مقاله الشهير «موت المؤلف» بعبارته الثورية الحالمة: «لكي تسترد الكتابة مستقبلها، يجب قلب الأسطورة. فموت الكاتب هو الثمن الذي تتطلبه ولادة القارئ».