يمشي مخفورا بكتاب ليس كأيِّ كتاب: هكذا تكلَّم قاسم حدَّاد في "دخان البراكين" (3 من 4)
[شرَّفني قاسم حدَّاد بتحرير وكتابة مقدمة كتابه الأحدث "دخان البراكين: كل شيء ليس على ما يرام" الذي صدر مؤخرا عن دار التكوين الدمشقيَّة. بيد أن هذا الكتاب الأحدث في تسلسل أعمال كاتبه لا يعني أنه الكتاب الأكثر جِدَّة في التأليف من الناحية الزمنية، بل العكس هو الصحيح؛ إذ إن تاريخ وظروف كتابته تعود إلى فترة السجن الذي حُكم به على الشاعر في منتصف سبعينيَّات القرن الماضي ضمن خضم البعد التنظيمي النضالي من تجربته الإنسانيَّة والحياتيَّة. وكذلك فإن هذا الأثر لا يتكون من نصوص إبداعية مختلفة التجنيسات -- مختومة بملحق توثيقي -- فحسب، ولكنه أيضا يشكل غابة من التأملات في تلك النصوص، ومراجعتها ونقدها الذاتي لها في ما يندر وجوده من حوار في المكتبة العربية. هذه هي الثالثة من حلقات أربع تحوي مقدمة الكتاب لمن رغب من القرَّاء].
في الذاكرة الثقافيَّة العربيَّة المعاصرة، وفي أدبيَّاتها المتاحة، ليس هناك (على حد علمي، والخطأ وارد دوما، والتصحيح مُطالَبٌ به أيضا) شاعر ينقم على نفسه، ويبكِّتها، ويحاسبها كما يفعل قاسم في هذا الكتاب. وفي هذا قد نكتشف شيئا غريبا وفاقعا فعلا: هذا الشخص يكتب شعرا في عتمة السُّجون وليس ضوء المكتبات وهو مُدجَّج بأدوات نقديَّة ذات مَضَاءٍ مفاهيميٍّ واصطلاحيٍّ، هي في الحقيقة أكثر حِدَّة من تلك التي في حوزة نُقَّاده وخصومه (إن الأسباب ترتهن إلى المتطلبات الكيديَّة في السِّياسات الحزبيَّة العاجلة أو تلك الذاهبة في علم الجَمال). وفي هذا الكتاب نتعلم درسا جديدا وغريبا إلى حدٍّ من الحدود: لا يجدر بالشاعر انتظار النُّقاد والتعويل عليهم، بل عليه أن يمضي في الكتابة كي ينتظره النُّقاد على القارعة لاحقا؛ فما من طريق إلا وفيه مفترَق، والأهم من ذلك: أن تكون ناقدا قاسيا على كتابتك وما تتوجَّه به نحو تجربتك في العالم، والوجود، والحروف. حقاً، ليس مطلوبا من الشَّاعر أن يمارس النَّقد إلا على نصِّه. لكن، في المقابل، على هذا ألا يكون خبرا سعيدا جدَّا لشعراء اليوم الذين يستنكفون عن معاشرة النَّقد الصادر من الآخر (أما احتمال النَّقد الصادر من الذَّات فلا يزال في السماء الثامنة). وهذا، في أية حال، شأن آخر يخص الذين لا مكان لهم في غيِّنا حين يعمهون.
ويصل تنكيل قاسم بنفسه في هذا الكتاب الذي بين أيادينا وفي عيوننا إلى درجة الإصابة بالمازوشيَّة تقريبا. ها هو يصف نفسه في بعض نصوصه التي يشهِّر بها بصفة "المسكينة" بعد التأمُّل ومراجعة النَّقد الذاتيِّ الصَّارم، وبأنه "موغل في الحذلقة"، ويقترف "التلاعب السَّاذج بالقافية"، ربما لأنه "كان مغرورا صغيرا وقتها" ما نجم عنه "استطالة غير مستحبَّة" في هذا النص أو ذاك، وغير ذلك من صنوف التَّقريع والشكِّ المريرين في الذَّات والروح الشخصيَّة. وفي كل هذا التَّبكيت والإسراف التَّعنيفي المفرط على النفس نتلمس بعض عذاباته؛ فها هو يعترف لنا: "لم أعانِ عذابا من قصيدة كما عانيت من "الوصيَّة"" لاعتبارات يبوح بها لنا بصورة تفصيليَّة. كيف يستطيع شاعرٌ آخر أن يضعنا في الزنزانة وفي القصيدة معا؟
هذا، ومن المعروف أن تجربة قاسم، في مجملها، تحتفي بالإيقاع الذي يرى دوما أنه من خصائص اللغَّة الشعريَّة في العربيَّة؛ لدرجة أنه عبَّر (غير مرَّة، وبعد مرحلة "دخان البراكين" بمدَّة) عن شعوره بالأسف أنه حينما يقرأ العديد من قصائد النَّثر العربيَّة اليوم فإنه يشعر أنه يقرأ شعرا مترجَما إلى العربيَّة وليس مكتوبا بها. سنجد في هذا الكتاب الكثير مما سينجدنا في فهم التعلُّق المبكِّر للشَّاعر بالإيقاع إن في صوره التقليديَّة (الوزن والقافية)، هذا إضافة إلى أن الكثير من قصائد قاسم تحتفي بالجناس والطِّباق ضمن الحَفل بالإيقاع في صوره الخارجيَّة، وذلك قبل السَّعي إلى ما هو أكبر وأكثر من ذلك في التجارب الأكثر نضجا ورويَّة حين ذهب الهوس الإيقاعيُّ إلى ما هو أعمق من ذلك في العلاقات الداخليَّة لعناصر النَّص ووشائجها (والحقيقة أنه، لمن يعرف قاسم بصورة مباشرة، ينعكس ذلك الهوس بالإيقاع والموسيقى حتى في رسائله الشخصيَّة وأحاديثه العفويَّة في شؤون الحياة اليوميَّة).
وليس من باب الاستطراد أننا نجد في هذا الكتاب الجِذى الأولى لتمكُّن قاسم من لغته والإمساك بناصيتها وتطويعها (هو الذي عمل ردحا من حياته في المكتبة الوطنيَّة في بلاده، وأحدسُ أنه كان يقرأ الكتب أكثر مما يعيرها في موقعه الوظيفيِّ ذاك). هنا لا أقصد "التَّمكن" من اللغة بالمعنى الجمالي والإبداعي فحسب، ولكن أيضا بمعنى مبدئي أكثر: إنه الكتابة بعربيَّة جزلة، ورشيقة، وثريَّة، وفاتنة، وبليغة؛ وليس كما نجد في الكثير من كتابات اليوم "الإبداعيَّة" العربيَّة حيث يخال المرء أحيانا أنه يقرأ لأناس يحاولون الأدب بلغتهم الثانية (ولعلَّ في هذا ما يذكِّر بتعليق قاسم المشار إليه آنفا حول النصوص الشِّعرية التي يشعر المرء حيالها بأنها مترجمة إلى العربيَّة وليست مكتوبة بها). والمؤسف أن هذا يتفاقم ليس بين جنس الكُتَّاب العرب وحدهم حيث تشيع المفردات الأجنبيَّة المُنَقْحَرَة في نتاجاتهم؛ هذا في الوقت الذي يتوافر فيه لسان الضَّاد على مفردات دقيقة لما يريدون قوله، بل توجد مفردات أكثر حذقا وسلاسة من استعاراتهم الأجنبيَّة، ولكنه يتعلق بِمُجْمِل العرب وثقافتهم وهويَّتهم لاعتبارات سيكون الخوض فيها خارج غرض هذا السياق.
وقاسم، في هذا الكتاب، يتبدى لنا منحازا بصورة صارخة ومتحزِّبا بشكل مُطلَق فيما يخص ثنائيَّة/ ازدواجيَّة الشِّعر والنَّثر على نحوٍ يسبِّب الكثير من الارتباك لنا، بل وحتى لكتابته نفسه: "الأكيد أن النَّثر قد جاء بعد الشِّعر. الشِّعر أولًا، وبعده جاء النَّثر"، و"الشِّعر هو الأصل عندي"، هذا مع الإقرار بأنه "أحيانا كثيرة يتوقف الشِّعر لكي يبدأ النثر". لكن ليس علينا أن نتماحك كثيرا حول هذا؛ بل علينا أن ندع نصوصه لتفضحه وتكشف مأزقه، حيث إنه قد (لا) يكون غريبا أن هذا الكتاب يبوح لنا بأن قاسم كان بصدد القصَّة القصيرة التي لم تكن كذلك بالضبط، ولكنها تحوَّلت لمرَّتين في الأقل إلى ما يسميه "مشروع رواية"، هذا ناهيكم عن نصٍّ مسرحيٍّ سنجده في القادم من الصفحات، إضافة إلى نصِّ يحمل هذا التبويب: "بانوراما".
ولا يضِنُّ علينا قاسم بشيء من معاناته المبكِّرة حول الفعل السياسي/التجربة الشعريَّة في الارتباط بالبدايات، ونضارَتِها، وعنفوانها، ونزقها (هو الذي علَّمنا ضرورة المراجعة). ومن نافلة القول إن كتاب قاسم هذا إنما يتعلَّق بفهم الموانئ والمرافئ قبل الأشرعة؛ ولكن ثمة بون شاسع بين أن تكون البدايات "ساذجة" و"بسيطة" و"على المنوال" بالكامل وبين أن تكون الكتابة منذ بواكيرها متَّسمة بالتوتر وعدم الاستكانة والدَّعة، وهذا من امتحانات الموهبة والتجربة المواكبة لها.
