محمد هاشم و"ميريت".. معنى أن تكون طليعياً
لعب الناشر المصري محمد هاشم (1958 - 2025) دوراً كبيراً في خدمة الأدب العربي الجديد. حين اقتحم سوق النشر في التسعينيات بدار "ميريت"، لم يكن هناك سوى بعض الدور الكبرى الراسخة، مثل "المصرية اللبنانية"، و"الشروق"، بينما كانت "شرقيات" وناشرها حسني سليمان تحاول أن تجد لنفسها مكاناً على الساحة.
منحت "شرقيات" الاهتمام الأكبر للكتابة التي سمَّاها الروائي المصري إدوار الخراط "عبر النوعية"، وفيها نكهة جديدة وغريبة وحريفة لا تشبه مذاق الأدب الرائج، ونشر لأسماء سرعان ما تصدرت المشهد، مثل مصطفى ذكري ومنتصر القفاش ومي التلمساني ونورا أمين، غير أن "شرقيات" انغلقت تقريباً على شلَّتها، وهذا لا يعني أنها لم تُصدِر كتباً لآخرين، لكن حركتها ظلت محصورة في نطاق ضيق للغاية، واعتمدت على جهد صاحبها.
ثم ظهرت "ميريت" ومديرها الشاب آنذاك محمد هاشم، وبدأ في استقطاب كتَّاب لا يجدون فرصة نشرٍ في الدور الكبرى وينتظرون دورهم في طوابير سلاسل مؤسسات وزارة الثقافة الطويلة، ونشر للراحل حمدي أبو جليل رواية "لصوص متقاعدون" فلاقت رواجاً كبيراً في زمن لم يعرف بعدُ مواقع التواصل الاجتماعي، وكتب عنها نقادٌ عدداً كبيراً من المقالات والدراسات، وخصَّص لها الشاعر شعبان يوسف عدداً من مجلة "ورشة الزيتون" التي يُشرِف عليها، وجمع فيها كل المقالات والحوارات التي أُجرِيت مع حمدي.
وسبَّب غلاف الرواية الذي صمَّمه الفنان أحمد اللباد ما يشبه الصدمة في الوسط الثقافي، حيث تصدَّرته مطواة قرن غزال حقيقية، ولم تكن الموتيفات الواقعية رائجة في الأغلفة، وهاجمه البعض، وأحبَّه البعض الآخر، ومع توالي النشر، وظهور أعمال لياسر عبد اللطيف، وإيهاب عبد الحميد، وعمر طاهر، وأحمد العايدي، وإبراهيم فرغلي، وطارق إمام، ومنصورة عز الدين، وإبراهيم داود، وأحمد يماني، وخالد إسماعيل، وأشرف عبد الشافي، ونجوى شعبان، وحسين عبد العليم، وأحمد مراد، بأغلفة فيها الكثير من الموتيفات المجنونة فرض اللباد بصمته وذوقه وصار علامة على النشر الطليعي والأدب المختلف.
فتح محمد هاشم السقف، ولم يطلب من أي كاتب أن يحذف حرفاً، وكان العادي أن تطلب الدور الأخرى، خاصة الحكومية، حذف فقرات أو نصوص، لأنها تتماس مع تابوهات السياسة والجنس والدين، وصار مقر الدار الأول في شارع "قصر النيل" القريب من ميدان التحرير استراحة لأي كاتب مصري يمر في وسط البلد، وأي كاتب عربي يمضي إجازة في القاهرة،
وكما استقطبت الدار الكتَّاب الشباب آنذاك استقطبت الكتَّاب الكبار محمد البساطي وإبراهيم أصلان وخيري شلبي عن طريق الكاتب إبراهيم منصور الملقب بـ"حارس جيل الستينيات"، ونشر البساطي وأصلان أكثر من كتاب في "ميريت"، وكان عادياً أن تقابلهم جميعاً لو عرَّجت بالصدفة إلى مقر الدار، واختلطت أحاديث الثقافة بأحاديث السياسة في جلساتهم، حتى أن "ميريت" صارت منتدى مفتوحاً لسنوات، لا مجال فيه لإقصاء، لكن هاشم خفيف الظل كان يكسر ملل الأحاديث الطويلة بتدبير المقالب للكتَّاب! وتوسعت الدار في كل الاتجاهات، واهتمت بالشعر بعد أن ركزت في البداية على الرواية،
وأصدرت لأسامة الدناصوري ورنا التونسي ومحمد خير ومحمود قرني وعزمي عبد الوهاب وعماد فؤاد وياسر الزيات وعبد الحفيظ طايل، وفي العامية لكوثر مصطفى وعبده المصري ومصطفى ابراهيم، وبعد وفاة الدناصوري الصادمة تأثراً بفشله الكلوي أنشأت الدار جائزة باسمه لكنها لم تستمر سوى لدورة واحدة، واستقطبت الدار كذلك بعض الأسماء الراسخة من شعراء جيلي السبعينيات والثمانينيات، وقد انسلخ بعضهم عن لغة وحالة وثقافة جيله، مثل الشاعر الراحل محمد صالح، فقد أصدر أجمل أعماله عنها، واهتمت الدار كذلك بالترجمة التي منحها اللباد أغلفة مميزة،
وحاول هاشم أن يصدر مجلة للرواية واستمرت اجتماعات هيئتها التحريرية لمدة عام لكن حلم إصدارها لم يُكتب له النجاح أبداً، وأصدر خلال السنوات الأخيرة مجلة إلكترونية لكنها لم تتخصص في الرواية فقط، وصارت الدار كذلك أكبر مدافع عن الحريات، فحين ثارت أزمة رواية الكاتب السوري حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" عام 2000 انتفضت الدار وكتَّابها وعقدوا الاجتماعات وأصدروا بياناً للدفاع عن إبراهيم أصلان رئيس تحرير سلسلة "آفاق عربية" التي أصدرت الرواية، واتخذ محمد هاشم موقفاً مناصراً للدولة هو وكل المثقفين، ضد الجماعات المتطرفة، لكنه عاد بعد ذلك بشهور قليلة ليقف موقف المعارض منها في أزمة "الروايات الثلاث"،
وحين رفض الكاتب الراحل صنع الله إبراهيم جائزة ملتقى القاهرة للرواية عام 2003، أقام حفل تكريم له في نقابة الصحفيين المصرية، بمشاركة صنع الله نفسه والكتَّاب جمال الغيطاني وإبراهيم عيسى وجميل عطية إبراهيم وميسون صقر وآخرين.
بدت الدار مثل شعلة لسنوات قليلة ثم سرعان ما خبت وتركت مكانها طواعية لدور أخرى أخذت بصمتها وروحها وأغلفتها، وحاول كثيرون من أصدقاء الدار أن ينصحوا هاشم بالتركيز والعودة إلى المسار لكن حماسه كان قد انطفأ، ولم تعد ميريت تظهر إلا في مناسبات بعيدة مثل معارض الكتب، وانفرط كتَّابُها كحبات مسبحة، لكنها مع ذلك تظل داراً طليعية أعادت الروح إلى جسد الثقافة الميت ومنحت مساحة الحرية لكتَّاب شباب حلموا بالتغيير.
