في المونودراما الفلسطينية «ترقص.. أرقص!» لكامل الباشا: مفارقة أليمة بين العمق والسطح
18 ديسمبر 2025
18 ديسمبر 2025
تحسين يقين
في تناصّ على مستوى العنوان، استلّه العرض من الأغنية المشهورة للفنان محمد منير «علّي صوتك بالغنا» التي أدّاها في فيلم «المصير» للمخرج الراحل يوسف شاهين، التي قدّم فيها الفيلم كبير فلاسفة العرب المسلمين ابن رشد، يُدخلنا العرض أحداث الفيلم الذي ظهر قبل 28 عاما؛ لأنه سيصعب تجنّب تداعيات اللغة هنا بدلالاتها الفنية والموضوعية، أكان في فلسفة الحكم أو فلسفة الحياة والفن.
بهذا الشعور نتابع المسرحية، ولكن تستوقفنا تلك اللحظة التي يمسح المهرّج فيها المكياج المرسوم على نصف الوجه المقابل لعمق المسرح، مبقيا على النصّ المقابل للجمهور، حيث تستمرّ مشاهد المونودراما التي تدخلنا حالة صراع، لا تنتهي إلا في النهاية، حين يكون الخلاص المنشود، حيث يجلس خاشعا في ركن المسرح كصوفي يناجي ربه العظيم.
لعلها كانت حركة من أكثر الحركات الإبداعية في المسرح، تم خلالها الإعداد للحوار القاسي والنزق والعاتب والمتنمر بين الشخصيتين اللتين تسكناه، ليتجاوز ذلك إلى المحيط الاجتماعي فالسياسي المحتمل، فالوجودي الممكن.
كان فضاء عرض «ترقص.. أرقص!» القادم من المسرح الوطني الفلسطيني- الحكواتي- القدس، سجّادة مستطيلة افترشت أرض خشبة المسرح، حيث يدور بوح مسرحية الشخص الواحد، فيؤدي الفنان هنا شخصيته وشخصيات آخرين، تنقل بينهم بخفة وذكاء، مؤديا في الوقت نفسه دور الراوي، والذي يعيش حالة تحدّ إنسانيا، حين يتمّ التضييق عليه نفسيا واجتماعيا واقتصاديا، حيث ينسجم العرض مع سيرة حياة الفنان نفسه، المجسّد لتلك الشخصيات معا، في انسجام إنساني وفني معا، قام برسمها ومقاربتها مخرج العرض.
وقد ذكرتنا تلك المساحة المحددة، المقتطعة من خشبة المسرح، بمسرحيات أخرى اعتمدت هذا الأسلوب محليا ودوليا؛ حيث مثّل ذلك مقترحا جماليا لمضمون العروض التي تناولت الفضاء العام للشخصيات وفضاء المسرح.
على اليمين مجموع «بلالين» تم نفخها، تم توظيفها نقديا بما فيها من دلالة (المنفوخ) في حركات العرض، وعلى اليسار طاولة صغيرة، تبدو عليها مرآة، يرى نفسه فيها حين يتعامل مع ملامح الوجه للرسم عليه.
ثم ليبدأ العرض فيما يشبه مونولوجات، ليبدأ عدّة ديالوجات سريعة، ضاجّة غاضبة في حالة صراع، امتدادا لصراع داخله، بدأ يظهر صوتا من خلال بوحه عمّا عاناه من تنمّر عليه، لم يقتصر على محيط اجتماعي معين، بل تعداه إلى حيث تواجد، حين يصير التنمّر ملاصقا له، ما يجعله في حالة بحث صعب عن لحظة تصالح، ليس مضمونا حدوثها.
لذلك والحال كذلك، عكس الحلّ النفسي المقترح بالعودة الصوفية حالة ما بين الأمل واليأس تجاه التغيير، لترجح كفة اللجوء للسماء، ما يعني عمقا فكريّا وفلسفيّا لدى كاتبة النصّ الشابة مريم الباشا، بما قدّمت أسلوبا وفكرا غير نمطيين.
أثار العرض داخلنا أفكارا ومشاعر، في الوقت الذي قدّم لنا متعة فنية متكاملة، بما قدمه الفنان المبدع عزت النتشة من تمثيل وحركات، حيث فاجأنا بقدرته الجسدية في التعبير الراقص؛ حيث كان الجسد هنا أداة مهمة حملت مضمون النصّ وقدمته بجرأة وانفعال صادق.
نخرج من العرض متأثرين برحلة الشخصية، تعبين مثله من آلام الرحلة التي خاضها، وإن خفف علينا ببعض الكوميديا، حيث تتعمق الأسئلة الإنسانية حول كلا الجانبين: المتألم وصانع الألم، في كشف صريح لهما، فلا يقتصر اللوم والإدانة لطرف، فكلاهما مدان، أما الأول فلتحمله ما لا يجب الاستمرار بتحملّه والمعاناة بسببه، في حين يتلقى الجانب الآخر ما يستحق من تعريّة وفضح لشروره.
جعل تكثيف الصراع العرض كتلة من الثقل النفسي، ولكن المخرج وفّق بتفكيكه من خلال الاتصال التلفوني، حيث يبدو أن الشخصية تعود لسيرتها العادية، فكأن «رنّة» الهاتف المحمول تفصل بين المشاهد.
تعيش الشخصية حالة «المهرّج» الذي يعمل في هذا المجال، ويتلقّى عروضا لتقديم أعماله الفنية، حيث يجري التفاوض على الأجر بطريقة صادمة، تصل إلى مقايضة العرض بأغذية وماء (سكر وزيت وطحين). ولعل ما تعيشه الشخصية من معاناة، تدفعه للبوح، والشكوى، حيث يثير الحاضر فيه الشجن، وتبدأ الندوب طقس تألمها.
كان إذن المسار العادي للعرض هو مسار حياة المهرّج-الإنسان العادية، والتي لا تنجو من تنمّر الناس، خاصة في التعامل والتقدير. وخلال ذلك، تتم استعادة ذكريات سابقة، لم تنج كذلك من معاناته. وهكذا تتقاطع معاناة أمس مع اليوم، فيتأثر، ويكون الزمنان شاحنين له باتجاه المستقبل، لكن رغم ذلك، فلا يبدو أن هناك خلاصا قادما، ما يدفعه لرحلة وجودية صوفية. ولعل هذه الخاتمة التي جاءت بين مرحلتي الرجاء واليأس، تعبّر ليس عن الحال، بل كيف رأت الكاتبة ذلك أيضا.
كانت رنّة الهاتف المحمول «يا شعب»، هي من يقطع سرد استدعائه للماضي، للعودة إلى المسار العمودي، إن جاز التعبير. والمفارقة أن صوت الرنّة بما فيها من عذوبة الشجن، تدفع نحو قسوة الواقع، كأنها مفارقة تنسجم مع مفارقة حياة المهرّج الذي يسعى لفرح الآخرين، فيما يعيش داخله شجنا خاصا.
ولعل المفاوضة المالية حول سعر العرض، تعكس ليس تجليات المادية، بل في تعامل أصحابها مع الفنون، سواء من حيث الدور، أو التقدير. بل جعلت الفن أيضا سلعة يتم حولها التفاوض-والمساومة.
حيوية الانتقال، وتغير الحال ما بين الصخب والسكون، والمضامين والشخصيات (صبحي وغيرها)، كانت تتم بأسلوب إخراجي سريع؛ فمن خلال نزع الأنف الأحمر الذي يشتهر به المهرجون، وإعادة تثبيته على الأنف، يكون بثانية واحدة: انتقل وعاد بثانية أخرى، دون أن ننسى عبقرية مسح مكياج المهرج عن نصف الوجه كما أسلفنا.
كان اختيار «المهرّج» مناسب جدا لخلق حالة المفارقات الحياتية والوجودية، والتي انسحبت على طريق الأداء، من خلال اللعب بالأنف والمكياج، حيث قدّمت عالم المهرّج بطريقة غير نمطية، انسجمت مع تصوير العرض لشخصيته الإنسانية الشجنة من الداخل، والتي تختلف إلى درجة النقيض مع السطح الخارجي الباسم.
لقد عرفنا الفنان عزّت النتشة في أهم دور له، في مسرحية «من قتل أسمهان»، والذي فاجأنا جميعا بإبداعه المميّز جدا، واليوم ينجح الفنان النتشة في أن يكون رافعة مميزة من روافع العرض، ولم ينته العرض إلا ووجدناه يمتلك من فنون الأداء الكثير، فلوحات الرقص التي قدمها، والتي عبّرت عن انفعالاته الوجدانية من شجن وغضب، تنبئ عن إبداع فريد، حيث كان الرقص في العرض ساردا آخر بالتوازي مع النص المنطوق.
بقي أن نقول، إنه بالرغم من المقاربة في جزء مهم من مضمون العرض مع مشهد الفنان محمد منير الذي قدم شخصية الشاعر، والممثلة ليلى علوي التي قدمت شخصية الغجرية الراقصة، من فيلم «المصير» ليوسف شاهين الذي ظهر عام 1997، الذي أشرنا له في افتتاح مقالنا، إلا أنّه، سواء في هذا العرض أو غيره، فإن الأولى كان اختيار موسيقى غنائيّة خاصّة، لسبب بسيط، وهو أنه إذا كان العرض مميزا إبداعيا بنفسه، فستسطو أغنية «علّي صوتك بالغنا» على الإبداع، وتجعل في لاوعي الجمهور أن جزءا من السبب يعود للأغنية التي اشتهرت كما الفيلم وأكثر. أما إذا لم يكن العرض مميزا، واندمج معه الجمهور للسبب نفسه، فسيعني أيضا الاعتمادية على عنصر خارجيّ.
