No Image
ثقافة

من ذاكرة الانتفاضة الأولى

17 أبريل 2024
17 أبريل 2024

الطفل محمود مصطفى محمود مطير- مخيم قلنديا - تاريخ الاستشهاد 26-6-2001 - العمر 17 عاما..

تبدأ قصة شهيدنا هذا بمشهد يتكرر في تراجيديا الفقد الفلسطينية، ليس هناك شهيد فلسطيني لم تركض خلفه أمه صارخة في أصدقائه الذين يحملون جثمانه تجاه مقبرة مخيم قلنديا: «استنوا استنوا».

آلاف الأمهات الفلسطينيات صرخن تلك الصرخة الرهيبة، على مدى رحلة الآلام الفلسطينية الفظيعة، ولو جمعنا تلك الصرخات وصهرناها في مصهر الوجع الفلسطيني لهزّت الكون، «استنوا مشان الله استنوا» ويستجيب الشباب طبعا، حتى الحجر يستجيب، إذ من قدر على تجاهل صرخة أم فلسطينية فقدت ابنها للتو؟

قبل ستة أشهر من استشهاده أصيب محمود برصاصة قناص صهيوني، وظل في المشفى الإسلامي في عمَّان يتأرجح بين الحياة والموت إلى اختار له الله هذا النوع الشريف من الموت، دب الذعر والحزن في البيت، لقد فقدنا أعز الآباء، صرخ الأب: الجثمان الذي وصل من عمَّان، وراحت إحداهن تصرخ: يا شهيد ارتاح ارتاح إحنا نواصل الكفاح، وانفجر بيت الشهيد بغناء النسوة المتحلقات حول الجثمان وأم الشهيد، بهذه الجملة، وكان غناء مبللا بالدموع، وأحيانا كانت الدموع تطغى على الصوت فيخرج إيقاع المناحة الفلسطيني المعهود، الإيقاع الذي يعرفه ويتقنه الفلسطيني الذي ما زال يعيش مع الموت في سرير واحد.

الأب صامت بلا حركة عين، يحدق في الجثمان، كأنه تمثال، وكان صوته: الله يرحمه، الحمد لله هو الرد الطبيعي على كل كلمة مواساة أو لمسة كتف من شخص ما حوله، ثم انفجر فجأة في ثرثرة مريحة: (كان متفوقا في دراسته، كان مؤدبا وخلوقا، كان ابني). يدخل أصدقاء الشهيد وهم يبكون، لحظة الوجع الفلسطينية بامتياز، هي لحظة رؤية أم الشهيد لأصحابه الذين طالما جهزت لهم الطعام، وتنصتت على أسرارهم وهم يثرثرون بها تحت الشجرة في الحديقة، تنهار الأم على أكتاف أصحاب شهيدها، وينهارون هم على أقدامها، في الزاوية يسمع صوت انتحاب أب الشهيد وهو يصافح والد أحد أصحاب ابنه، وفي غرفة مجاورة يسمع صوت بكاء أخوات الشهيد وهن يعانقن صديقاتهن الجارات، من خارج البيت في مكان ما، تصل كل نبرات وإيقاعات هذه البكاءات إلى الفضاء، لتشكل معزوفة حزن إلهي كوني، الفضاء سمع هذه الإيقاعات ونطق بجملة واحدة فقط: هذا حزن فلسطيني. في لحظات ما بعد الدفن، يهدأ حزن الفلسطيني، يتحول إلى غصة أو اختناق ساكت أو نحيب كامن، ويبدأ وقت القصص، قصص الشهيد وحكاياته في المدرسة ومع الأصحاب في المظاهرات.

«كان نفسي مرة أمسكه غلطان أو مسيء لحدا، الله يرحمه كان ملاك ملاك». قال زميل له في المدرسة في الصف الحادي عشر تحديدا.

معلم التاريخ في مدرسته قال في بيت العزاء: «ضحى بنفسه من أجل إنقاذ شخص مصاب، خاطر وتقدم لحمل المصاب، لكن رصاصة القناص قالت كلمتها الشيطانية»، هذه عادة فلسطينية معروفة، أن يموت الفلسطيني وهو مجردٌ يحاول إنقاذ شخص مصاب، أعرف كثيرًا من نماذج هذه العادة النبيلة في تاريخ كفاح شعبنا، حياة البلبيسي ابنة الشيخ جراح و المعلمة الوحيدة في مدرسة دير ياسين استشهدت عام 1948 بنفس الطريقة، هربت من القرية مسرعة حين هجم الصهاينة، لكنها تباطأت حين رأت عجوزًا فلسطينيًا جريحا فعادت أمتارا فقط لتسعفه فأصابتها رصاصة من قناص صهيوني.

صاحب بقالة في المخيم: «كان يشتري من عندي دايما بسكوت وكان يظل يطلع على العلبة عشان يتأكد أنه مش إسرائيلي،، الله يرحمه».

ينتهي العزاء بأيامه الثلاثة، يأتي وقت الحزن الحر الداخلي، الذي لم يعد يؤجله معز أو قريب أو صديق يجلس مع العائلة مواسيا، شبابيك الدموع تفتح على مصراعيها، الأب في غرفته ينتحب، والأم بلا طعام، بلا كلام، والأخوة والأخوات، يجلسون مع الصمت.

المشهد الأخير في قصتنا الحزينة: بعد أسبوع من الفقد المر، طرْقٌ مسائيٌ على باب البيت: امرأة حزينة دامعة العينين تدخل، تسأل عن أم الشهيد، تأتي أم الشهيد شبه زاحفة، تقترب المرأة الغاضة منها، تحضنها بقوة وهي تبكي، تبادلها الأم نفس قوة الدموع و الحضن، تخجل من أن تسألها: من أنت؟

لكن المرأة تجيب لوحدها: «أنا أم جمال اللي أنقذه محمود الشهيد ابنك وضحى بنفسه عشانه».

تصيح أم الشهيد: «يا حبيبتي»، تزداد قوة الحضن.

يخرج الأب والأشقاء من الغرف، يصافحون الضيفة، ينضمون مكتفين بالإصغاء إلى حوار بطيء ومتعب، بين أجمل والدتين في العالم.

لاشيء فيهم يتحرك سوى إحساس كبير بفخر وبصيص دموع.