2644764_4056
2644764_4056
ثقافة

الدراما المحلية بين الجدل المتكرر والتقييم الانتقائي

27 أبريل 2024
27 أبريل 2024

في ظل التباين الواضح في الآراء حول مستوى الأعمال الدرامية المحلية، يبرز الجدل حول أهمية النقد الموضوعي والبناء، بعيدا عن التجني وتضارب المصالح. فمن جهة، هناك آراء فنية وتقنية تركز على تفاصيل محددة في العمل، سواء إيجابية أو سلبية، لكنها قد لا تعكس بالضرورة تقييم العمل بشكل شامل. ومن جهة أخرى، يبقى المشاهد العادي هو المعيار الأساسي لنجاح العمل، حيث ينظر إلى النتاج الكلي بعيدا عن التفاصيل الفنية، ولا بد من التمييز بين النقد الهادف والخصومات الشخصية أو المصالح الخاصة، سواء من قبل الفنانين أو الكتاب أو غيرهم ممن قد تكون لهم مآرب خاصة. فالنقد البناء هو الذي يسهم في تطوير الأعمال الدرامية وتحسين جودتها، بينما الخصومات والآراء المنحازة لا تخدم إلا مصالح ضيقة.

لا يمكن إنكار أن هناك ضعفًا عامًا في نصوص الدراما التلفزيونية المحلية والخليجية، الأمر الذي ينعكس سلبا على جودة الأعمال الدرامية، فالنص هو البوابة الرئيسية للانطلاق نحو الخطوات الأخرى في عملية الإنتاج، وبالرغم من كثرة الكتاب وغزارة إنتاجهم في سلطنة عُمان، إلا أن المتلقي العادي يجب أن يدرك أن الدراما ليست مجرد نص عادي، بل هي سيناريو يتطلب مهارات خاصة لتحويل النصوص إلى أعمال درامية قابلة للتنفيذ أمام كاميرات التلفزيون، لا يمكن بسهولة لكتاب المسرح إنتاج نصوص درامية تلفزيونية ما لم يدركوا أسس المعالجة الدرامية والنظر بعمق نحو تقديمها تلفزيونيا، وليس على خشبة المسرح فحسب، فهذه الأسس مختلفة بلا شك. لذلك، يجب أن يكون لدينا كتاب قادرون على ترجمة النتاجات النصية الغزيرة إلى سيناريوهات درامية تلفزيونية عالية الجودة، تلبي متطلبات هذا الوسيط الإعلامي المهم.

ربما يتساءل البعض لماذا ضربت مثالا حول كُتاب المسرح في هذا السياق؟ وفي الحقيقة، تعمدت ذلك لأن بعض كتاب المسرح في الفترة الأخيرة لم يكتفوا بطرح أفكارهم حول تطوير الدراما التلفزيونية، بل ادعى البعض منهم القدرة على إنقاذها من الضياع نحو آفاق أرحب لا تقبل النقد، وبينما لا نشك في حُسن النوايا ورغبة الكثيرين في تقديم الأفضل للدراما، إلا أن المشكلة الرئيسية تكمن في عدم إدراك صعوبة هذه المهمة وفهم الفرق الجوهري بين كتابة النصوص المسرحية والنصوص الدرامية التلفزيونية.

لقد تجلى هذا الأمر بوضوح عندما أُتيحت الفرصة لأحد هؤلاء الكُتاب لتقديم ما يمكنه تقديمه «لإنقاذ الدراما من الضياع» كما ادعى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث واجه حاجزا في فهم الفرق بين النصين المسرحي والتلفزيوني. ومع عدم إغفال رغبته في التعلم وتحقيق طموحه في المستقبل، يبقى السؤال قائما: لماذا لم يوضح هذا الكاتب على وسائل التواصل الاجتماعي أن الفرصة أُتيحت له ولكنه لم يستطع تحقيق طموح «الإنقاذ»؟ لو فعل ذلك، لكان الأمر أكثر حياديةً وتوضيحا بأن الجهة المعنية لم تغفل الأخذ بالرأي وتقديم الفرصة للمساهمة في تطوير الدراما التلفزيونية.

أقول ذلك في ظل الاتهامات المتكررة للجهة المسؤولة عن الإنتاج الدرامي بإقصاء الكتاب وتهميشهم، ومحاباة البعض على حساب الآخرين، هنا أجد نفسي مقتنعا تماما بما يجري على أرض الواقع، فقيام وزارة الإعلام بإنتاجها الخاص في وجود شركات إنتاج خاصة تفتقر للقدرات الكافية لإنتاج أعمالها، يعكس حرصا واضحا من المسؤولين على السير نحو ما هو أصلح للواقع، وليس مجرد مراعاة للعواطف والميول الشخصية.

لقد سبق وأن عرضت آرائي حول وضع الدراما وما ينبغي أن تكون عليه في ثلاث حلقات متصلة، وما النقاشات التي دارت حول تلك الآراء وتنفيذ البعض منها إلا دليل على حرص المسؤولين على الاتجاه نحو الأفضل، وبعد كل تلك الآراء التي أنا مقتنع بها، لا يمكن القول بغير ذلك، فالطريق الذي تسير فيه الدراما هو الطريق الصحيح. نعم، التحديات كبيرة، والعملية واسعة النطاق، إذ تشمل فعلا ثقافيا أشمل، ومن هنا، فإن الوصول لإرضاء متلقٍ يدعي عدم متابعته لتلفزيون سلطنة عمان، وينتقد عملا لا يشاهده، يُعد معضلة كبرى!

من هنا تأتي أهمية النقد الفني البناء، الذي يسلط الضوء على النقاط المهمة والرئيسية في مكامن القوة والضعف في الأعمال الفنية، ويساعد على تطوير المواهب وصقل الأساليب، فالنقد الموضوعي الهادف هو الذي يدفع الفنانين والمبدعين للتطور والارتقاء بأعمالهم، ويساهم في رفع مستوى الإبداع الفني بشكل عام، وهنا أدعو إلى نقد بناء وهادف لأعمالنا الفنية، يركز على جوهر العمل وتأثيره على المتلقي، بعيدا عن الشخصنة والتجريح، فهذا هو السبيل الوحيد لتطوير مشهدنا الفني وتحقيق التميز المنشود، وإرضاء أكبر عدد ممكن من الجمهور بأذواقهم المتنوعة.

سأعتبر ما سبق تقديما وسأقدم تقييمًا موجزًا لعملي «غراق فلاح» و«يا قلبي ابتسم»، دون الخوض في تفاصيل مُملة. فالعمل الأول تناول بحساسية هموم مجتمعنا المحلي والخليجي والعربي بشكل عام، وبحكم طبيعته المكونة من حلقات منفصلة، كان من الطبيعي أن تتفاوت جودتها، فبعضها كان مقبولا والبعض الآخر جيدا، ولم أجد ما يبرر وصف أي منها بالضعف أو الهزالة كما زعم البعض. نعم، هناك أسلوب كتابة توجيهي ظهر أحيانا، لكن المعالجات التي أجريت ساهمت في تحسين العمل تدريجيا مع حلقاته الأخرى.

أما المسلسل الآخر «يا قلبي ابتسم» فهو من تأليف كاتبة عمانية شابة، واحتاج النص لبعض المعالجات لمنح فرصة الظهور لكاتبة جديدة عبر شاشتنا، وهذا ما نأمله دائما في منح الفرص للكتاب الواعدين، والمسلسل في الواقع أفضل حالا من الكثير من الأعمال الخليجية الفارغة التي تعتمد على الزعيق وسفاسف الأمور وشهرة نجومها وإبهارها البصري فحسب، في حين يفتقر محتواها لأي عمق، وقد اقترب «يا قلبي ابتسم» نوعا ما من الأسلوب البسيط السائد في المنصات الرقمية، واستطاع الحفاظ على مستواه المُميز منذ البداية حتى النهاية، كما عزز وجود نجومه المعروفين من قيمته الفنية، وكانت الشخصيات الرئيسية ركيزتين أساسيتين في نجاحه، حيث قدموا أدوارهم بإتقان وحرفية دون ابتذال أو تكلف.

وبالرغم من ادعاء البعض بعدم متابعة الجمهور للأعمال المحلية، إلا أنهم يصبون غضبهم عليها بوعي أو بدون وعي، بل ويتعمقون في تفاصيلها الدقيقة مما يؤكد اهتمامهم بمتابعتها، أما أنا، فتشكل رأيي العام حول عملي «غراق فلاح» و«يا قلبي ابتسم» بعد مشاهدة كاملة لحلقاتهما، وليس من خلال حلقة أو حلقتين وليس من وجهة سلبية مسبقة. فهذا الرأي مستند على النتاج النهائي الذي ظهر على الشاشة، ولا تهمني كمتلقٍ ملابسات قبول الأعمال للتصوير من عدمه أو رأي كاتب رفض نصه، كما لا تهمني الخلافات مع المسؤولين والتجني عليهم، ولا رأي فنان لم يستدعَ للمشاركة أو فنان آخر رفض المشاركة، ولا تهمني أيضًا الجوانب الفنية التي يركز عليها المختصون مثل اهتزاز الكاميرا أو ثباتها. أما مسألة الإخراج، فبطبيعة الحال كل مخرج له أسلوبه الذي يعجب مجموعة ولا يعجب آخرين، والعكس صحيح. ومهما حاولنا من جهود، فمن المؤكد أنه لا يوجد مخرج يستطيع إرضاء الجميع. فالذوق الفني شخصي وتختلف المعايير من شخص لآخر، وهذا ما يجعل الإبداع الفني مهمة صعبة وشاقة، وفي الوقت نفسه، هذا التنوع في الأساليب والرؤى الإخراجية هو ما يثري المشهد الفني ويمنحه الحيوية والتجدد، فكل مخرج يقدم رؤيته الفريدة ويضفي لمسته الخاصة على العمل، مما يوجد تجارب فنية متنوعة تلبي أذواق الجمهور المختلفة.

ما يهم الآن هو «المحصلة النهائية» فقط، وأقول بشكل حيادي متجرد وليس لأنني موظف في وزارة الإعلام، كما سيدعي البعض: إن الأعمال الدرامية المحلية لا تقل شأنا عن المسلسلات الخليجية الأخرى، بل وتتجاوز بعضها في الأفكار وتتناول الواقع بشكل لا يسطحه، يبقى أنه ليس هناك مشكلة في النصوص وحدها، بل شح في نصوص الدراما التلفزيونية أساسا، وأنا أتعمد على أن أطلق عليها «تلفزيونية» نظرا لما يجاهر به البعض في كثرة النصوص المسرحية! وهذه إشكالية أخرى إذا كان من يجاهر بذلك يعتقد أنهما سيان!، والسؤال الأهم الآن: كيف نعالج أمر النص؟.. حينما تُحل مشكلة «النص» ستحل باقي الجوانب المقدور عليها.

لذلك أقترح طرح فكرة عامة لمسابقة تختص بتحويل النص إلى سيناريو تلفزيوني، سواء كان متصلًا أو بحلقات منفصلة. ويجب هنا وضع شروط معينة تحقق الهدف، أبرزها ألا يشترط أن يكون كاتب النص الأصلي هو كاتب السيناريو، ويمنح الخيار لكاتب السيناريو تناول نص عماني مكتوب ضمن الكم الهائل من النصوص المحلية من رواياته وقصصه. ومع أنني أشجع أن يكون هذا المشارك عمانيا، إلا أنه ـ في حال التعذر ـ إشراك السيناريست العربي لخوض هذه التجربة، شريطة أن يكون النص الأصلي عمانيا، وهي نصوص كثيرة ومتنوعة، وهنا لا بد من التأكيد على أهمية دعم الكتاب والمبدعين العمانيين، وتوفير البيئة المناسبة لصقل مواهبهم وتطوير قدراتهم الإبداعية، فهم ثروة حقيقية للمشهد الثقافي والفني في سلطنة عمان، ويجب الاستثمار فيهم بشكل جدي ومستمر لضمان ازدهار الدراما المحلية وتميزها.

هذه المسابقة ستسهم في إثراء المشهد الدرامي المحلي بنصوص جديدة، وستكشف عن مواهب كتابية جديدة قادرة على تحويل النصوص المكتوبة إلى سيناريوهات تلفزيونية مميزة، علاوة على ذلك، ستساهم هذه المسابقة في ترسيخ ثقافة النقد البناء والتقييم الموضوعي للأعمال الدرامية، حيث ستخضع السيناريوهات المقدمة للتقييم حسب معايير فنية محددة وعادلة. وهذا من شأنه أن يرفع مستوى الوعي لدى الجمهور والنقاد على حد سواء، ويشجع على إجراء حوار هادف وبناء حول جودة الأعمال الدرامية وسبل تطويرها.

بعد عملية الفرز والتقييم، يتم اختيار عملين متميزين للإنتاج الفوري، في حين توضع الأعمال الأخرى التي تحتاج لبعض المعالجات ضمن مسار معين للإنتاج، سواء في الموسم الرمضاني أو أي فترة أخرى من العام، ومن الشروط الأساسية التي نقترحها لضمان تنوع الأعمال المنتجة، عدم تكرار الكاتب نفسه في الأعمال المختارة، ورغم أنني أقترح كل ذلك ـ وأنا لست مختصا ـ لكني في الوقت نفسه أجد انه لزاما أن تقوم لجنة مختصة مكونة من خبراء مجال الدراما والإنتاج التلفزيوني في الوزارة، أو بمن تستعين به من أفراد أو تجارب مماثلة في دول أخرى لوضع رؤى وأفكار وشروط محددة تخص هذه المسابقة بهدف استقطاب أفضل المواهب الكتابية وتحفيزها ومنح جوائز مجزية للفائزين، لأنني أعتقد هذه المسابقة ستلفت الأنظار نحو هذا النوع المهم من الكتابة الإبداعية.

ومن خلال العمل الجماعي والتقييم الموضوعي والاستفادة من خبرات المختصين، ستتمكن هذه المسابقة من تحديد أفضل النصوص وإبراز الكتاب الموهوبين، وبالتالي ستكون نقطة انطلاق حقيقية نحو مستقبل مشرق للدراما المحلية، تحظى فيه بالاحترام والتقدير على أعلى مستوى منشود.

في الختام، يجب أن يكون الهدف الأساسي للنقد هو تحسين الدراما الخليجية وتطويرها، وليس التجريح أو الانتقاص من قيمتها، فالتقييم الموضوعي والبناء، مع الأخذ بعين الاعتبار رأي المشاهد العادي، هو السبيل الأمثل لتحقيق هذا الهدف، كما أن الاستثمار في النصوص الدرامية الجيدة والمؤلفين المبدعين، سيكون له أثر إيجابي على جودة الأعمال الدرامية في المنطقة.