4564646
4564646
ثقافة

مقامات: رحلة قراءة.. تأملات قارئة

24 أكتوبر 2021
24 أكتوبر 2021

لست من قراء أدبيات تنمية الذات غالبا، إذ أشعر أن أغلبها نقل مكرور وأفكار مستهلكة ومع ذلك فكثيرا ما شجعت على قراءتها خاصة لأعمار القلق العشرينية حيث الطريق ضبابي والمستقبل بعيد وغائم؛ ولكني بالطبع من عشاق أدب السيرة الذاتية منها والغيرية، إذ تبهرني خلاصة التجارب الإنسانية، ويدهشني أن أقرأ حياة إنسان من أقرب مصدر لها ألا وهو ذاته وروحه وبقلمه.

إذ يحدث أن تخلص من السيرة الذاتية بحكمة ما، وأن تقدم لك عصارة واعية، تساعدك على الحياة، فأنت تجد الحكمة المقطرة من التجربة الذاتية التي تستخلص من حياة شخص ما وتجاربه ما يمكن أن يكون بمثابة عبرة وعظة لطريقك بعثراته وقلقه، أو إشارة نحو طريق بعيد أو جميل أو غريب، هذا الشخص الذي ليس عليه أن يكون بطلا خارقا أو قائدا عظيما أو كاتبا فذا؛ بل هو إنسان عادي شخص عادي مثلك، يسقط ويقوم، يتعثر أكثر منك أحيانا ولكنه يحول عثراته لسلالم للنجاح.

قصص تساعدك في لحظات اليأس وتقدم لك حكمة عامة وليس «كتلوجا» لتمشي عليه أو تتحول به لكائن خارق فأنت إنسان عادي وبسيط مثله تماما، ولكن يمكن أن تتعلم وتصبح ناجحا مثله أيضا.

في هذه الكتب التي عبرتها أو عبرتني؛ سيرة إنسان سار على درب الحياة وتعثر وسقط ونهض وحاول ليستمر، إنسان آمن بذاته وقدره وحاول أن يصنع معجزته بنفسه.

ومن أهم تلك الكتب التي قرأتها مؤخرا كتاب «رأيت رام الله لمريد البرغوثي»؛ الكتاب الذي ظل في أدراج مكتبتي عمرا طويلا، كنت أسترق النظر إليه، وأراوده عن نفسه أقرأ فيه قليلا بين الفينة والأخرى ولكني لا أمضي معه بل أعيده لرفه وأستمهله زمنا، وأستسمحه كثيرا بسبب مشاغلي وازدحام أيامي بالعمل والكسل والمحبة؛ حتى مات صاحبه. فهرعت إليه أنا التي تحب الموتى، وتحترم التجارب المكتملة بالغياب؛ لذا لم أجد مبررا للبعد عنه، فلجأت إليه لأعرف هذا المغادر الرائع، هذا الشاعر الفلسطيني المغترب، هذا اللاجئ الرافض الحانق السارد الكبير والكثير.

مضيت مع الكاتب في رحلته لرام الله، وفي حمولات رحلته الحياتية التي ضمنها مفاصل الحكاية.

كتاب وأي كتاب سيرة وأي سيرة. لقد جعلني أعرفه كأنني ولدت معه في دير غسانة، وكأنني سافرت معه لأدرس في القاهرة، ولأعيش معه في كل مهجر ذهب إليه، لأعرف عائلته كأنني ابنتهم وأعرف رضوى كأنها زميلتي أو أستاذتي القريبة والحبيبة، لأعرف رام الله بكل تناقضاتها والقدس بقدسيتها وأرضيتها، لأبكي ناجي العلي وغسان كنفاني وأخاه منيف وغيرهم من شهداء بلا ذاكرة ولا أدوار بطولية، لأخرج في مظاهراته وألعب مع تميم في حديقة بيته في بودابست وأسافر لباريس وجنيف. لأحمل القضية الفلسطينية وأعرف كل شيء عنها بدقة وموضوعية نادرة جدا، ولأعشق الشعر في القصيدة والنص السردي والحياة «في ذات الوقت».

لأراه بعين قلبي كما رأى هو رام الله وكما سيراها كل قارئ حتى آخر الزمان وآخر اللغة وآخر الحب.

وإذا كان شاعرا كان غريبا عن «هنا». غريبا عن (أي هنا) في العالم. إنه يجاهد لينجو بلؤلؤه الشخصي رغم معرفته المؤكدة بأن لؤلؤه الشخصي قد لا يساوي شيئا في السوق.

الكتابة غربة، غربة عن الصفقة الاجتماعية المعتادة، غربة عن المألوف والنمط والقالب الجاهز.

غربة عن طرق الحب الشائعة وعن طرق الخصومة الشائعة، غربة عن الطبيعة الإيمانية للحزب السياسي، وغربة عن فكرة المبايعة.

الشاعر يجاهد ليفلت من اللغة السائدة المستعملة إلى لغة تقول نفسها للمرة الأولى. ويجاهد ليفلت من أظلاف القبيلة، من تحبيذاتها ومحرماتها، فإذا نجح في الإفلات وصار حرا. صار غريبا أقصد في الوقت نفسه.

كأن الشاعر غريب بمقدار ما يكون حرا.

والممسوس بالشعر أو بالفن عموما إذ تحتشد في روحه هذه الغربات لن يداويه منها أحد حتى الوطن.

إنه يثبت بطريقته الخاصة في استقبال العالم وطريقته الخاصة في إرساله. فمن الحتمي أن يستخف به أصحاب الوصفات الجاهزة، وأهل العادة والمألوف، يقولون «هوائي» «متقلب» و«لا يعتمد عليه» إلى آخر هذه النعوت المرصوصة كالمخللات على رفوفهم: أولئك الذين لا يعرفون القلق، أولئك الذين يتعاملون مع الحياة بسهولة لا تليق»

وكتاب « أستطيع أن أرى بوضوح الآن « لواين داير؛ الذي يحكي فيه سيرته حيث الطفل الذي هجره والده مع أخويه وأمه واستطاع تحقيق حلمه عبر الإيمان به والصبر ووصل لأكثر مما طمح لأنه كان مؤمنا بالرب ومشيئته الكبرى ومتفائلا ومثابرا.

وكتاب «المحارب» لدوغان جوجول اوغلو الذي يتحدث في سيرة لقائه بمعلم فقد معنى الحياة، وعن كيفية البحث عن هذا المعنى عبر الحياة والقراءة والفلسفة لأن الحياة بلا معنى لا تستحق أن تعاش.

و«فن اللامبالاة» لمارك مانسون، وهو كتاب رائع حيث يرى عبر سيرته أن حياة الإنسان رحلة شاقة يجب أن يعيشها الإنسان كما هي بعيدا عن التصنع والكذب، وبعيدا عن محاولة إثبات جدواها لأحد.

عش قدرك وظروفك ولكن حاول تغييرها وفق إمكانياتك، جرب، وحاول ولكن بلا مبالغات وأوهام.

إن هذه الكتب تحاول تقديم خلاصة التجربة الإنسانية لأفراد يستخلصون من حيواتهم ومشاقها حكمة يمكن أن تفيد أحدهم بشكل ما، شخصيا تشربت تلك الحكمة السائلة وأحدثت أثرها في كياني ووعيي، وكما آمنت دائما أنك لا تخرج من أي كتاب كما كنت سابقا أبدا. وهذه هي قيمة القراءة دائما.