54654654
54654654
ثقافة

مرفأ قراءة... «هوامش في المدن والسفر» العالم من رؤوس الجبال !

26 يونيو 2021
26 يونيو 2021

إيهاب الملاح -

- 1 -

أحب أدب الرحلات جدًّا، وأعتبره أحد أمتع وأشهى ألوان القراءة؛ والتجوال المتخيل (إذا جاز القول) لمن يهوى السفر ويحب جوب الآفاق، ولم يركب طائرة يومًا في حياته أو يستقل سيارة ويعبر بها الحدود والأسلاك الشائكة أو يلف الموانئ ومدن عرائس البحور إلا على الورق فقط، وبطاقةِ الخيال الجبارة الخلاقة المذهلة. فكل رحلة هي تعرف جديدا، وكل كتابة هي خبرة مختلفة؛ بعيون الرحالة وسرده وخياراته الجمالية والتشكيلية.

وكإنسان يحب السفر، ويعشقه، ويستعد على الدوام لحزم الحقائب، وطلب التأشيرات وختم جوازات المرور، يسعدني دومًا بل يمتعني أن أقرأ طول الوقت عن السفر والترحال وخبرات المشاهدة والاكتشاف، واستطلاعات الجغرافيا والتاريخ، وكقارئ يعشق الكلمة والمجاز والسرد والمعنى، فقد أمضيتُ وقتًا رائعًا بل أكثر من رائع مع كتاب الأستاذة عائشة سلطان الكاتبة المعروفة، والصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية بعنوان «هوامش في المدن والسفر والرحيل».

- 2 -

يستعصي الكتاب فعلاً على التصنيف، فهو لا يتأمل رحلاتٍ بعينها فحسب، ولكنه يتأمل فكرة السفر نفسها، يختبرها في الأماكن، وفي الجزر وفي قمم الجبال والمقاهي والساحات، يختبرها في الجولات السياحية والاستكشافات التاريخية والثقافية والفنية، وفي الاقتناصات الإنسانية العابرة للغات والأديان والأعراق والأجناس والألوان، مثلما يختبرها أيضًا وفي مستوى أعمق في الفكرة والمعنى والوسائل والأدوات والحقائب والفنادق، ويختبرها أيضًا بذكاء ثاقب في أعمالٍ أدبية وروائية ترد إشارات لها في المتن يلعب السفر والترحال والحنين دورًا مهمًا في أحداثها وفي مغزاها، وشخصيات كتابها أيضًا (ترد أسماء ناظم حكمت وأورهان باموق وإيزابيل الليندي ويوسف زيدان في مواضعها من النص)..

استهلال الكتاب نفسه بهذه الأسطر للروائي التركي أورهان باموق يلخص إلى حد كبير هذه الاختبارات المعرفية والوجودية فيما يخص علاقتنا بذواتنا وبالآخر وبالمكان والذاكرة؛ تستهل عائشة سلطان كتاب رحلاتها بـ:

«الكتابة عن المدن تعد حفظًا للذاكرة، فالمكان يسجل نفسه في ذاكرتنا وفقًا لأحاسيسنا في اللحظة الراهنة، وحين ندمر تفاصيله؛ البيوت، الأشجار، الأسوار والأسواق.. فإننا نفقد فهرس ذاكرتنا، لأن فقدان المكان هو فقدانٌ للذاكرة!»

- 3 -

تؤمن عائشة سلطان «بأن للمدن مزاجًا يشبه مزاج البشر، وروحًا تشبه أرواحنا وبأن الاتفاق والاختلاف مع المدينة ليس له قاعدة سياحية كما تروّج لها مكاتب السياحة، لكن لها قاعدة نفسية بالضرورة»؛ وحين يتعلق الأمر بالسفر بحثًا عن البهجة والمتعة، وحين يصبح التحليق تحت سماوات مختلفة وحميمة مطلبًا مُلحًّا للقلب والروح، فهناك منطق مختلف يفرض نفسه علينا، يختلف بل ويتعارض كلية مع منطق التخريب الذي يمارسه الإرهاب ضد كثير من المدن لينفروك منها، إلا أن المدن التي نحبها تستقبلنا دون تردد برغم جراحها، ونحن نذهب إليها برغم المخاطرة، لأن هناك ما يجذبنا إليها، ما يدعونا ويستدعينا لنذهب على جناح السرعة».

مع عائشة سلطان ستترك ما قرأتَ من سردٍ قديم، وستسافر على أجنحة الخيال والكلمات والتصوير، وستعلم أن قانون الرحلة الأول هو تشريح كل شيء وتفكيكه لكي تكون الرؤية معرفة بالعمق، كل شيء على طاولة النظر والفهم، وكل شيء في كل مكان وفي كل رحلة وفي كل نص قابل لطرح مائة سؤال وسؤال: الجغرافيا والتاريخ والبشر والحجر الذكريات والحنين والبدايات ومحطات الإقلاع والوصول، أما القانون الأهم فهو الحركة لا الثبات، الحركة باعتبارها طلبًا للخلود والدوام، وبحثًا لا ينتهي في مواجهة السكون والموت.

- 4 -

«هوامش في المدن والسفر والرحيل» نص بديع وممتع لواحدة من عشاق الأسفار وجوب الآفاق وقراءة النصوص والبشر والحجر معًا؛ «الساردة» هنا سيدة مثقفة متعطشة دوما «للما بعد» و»الما وراء»، اتسعت حدقتاها لتلتهم بعين الشغف والفضول كل ما تصادفه في رحلاتها وأسفارها؛ كل تفصيلة لها قيمة، كل خطوة وراءها حكاية وطاقة إنسانية مخفية؛ تحب الساردة البشر والحيوان والتاريخ والفن والأدب. التجوال بين المدن تحقيق عملي لكل متعة تحصلت وتعينت بقراءة نص أدبي جميل و»جليل»،

لولا روايات إيزابيل الليندي، وكتابها الذي توقفت عنده بإمعان «بلدي المخترع» ما جعلتنا عائشة سلطان نشعر بحنين إلى بلاد الأسلاف، ونستحضر بعين الخيال والجغرافيا شيلي «الإنديزية» وجمالها الإسبانوأمريكان الذي يضج بالحياة والمتعة والخطر والأساطير!

ولولا أورهان باموق وناظم حكمت وعزيز نيسين ما كان لها أن ترى أرض الأتراك وتاريخهم وعمارتهم وفنونهم بمثل ما رأته السيدة العاشقة لإنطاق ما بين السطور في واحدةٍ من مدنها العابرة للقرون والتاريخ «إسطنبول»

ولولا ثلاثية محفوظ وروايات أهل المحروسة ما نقشت خريطة القاهرة في وجدان وروح وعقل عاشقة مصر والمصريين التي تصف القاهرة بـ «هذه المدينة المعجونة بفسيفساء حضارية نادرًا ما توجد أو تكون»، اسمع معي ماذا تنشد السيدة التي أحبت مصر وأهلها وشوارعها وميادينها وجوامعها؛ اسمع:

«المآذن والقصور، المزارات والقلاع، الحاكم محمد علي باشا والولي صاحب المقام وحضرة سيدنا الحسين بن علي، ملك الرواية نجيب محفوظ، وملك مصر القديم رمسيس الثاني، كليوباترا الفاتنة، والسيدة زينب الأسطورية، القلعة ذات التاريخ المخيف، والمتحف المصري حافظ أسرار التاريخ الفرعوني.. وحدها مصر جمعت كل أطياف الحضارة والميثولوجيا والسياسة والدين بسلام وأمان طيلة قرون وقرون دون حروب أهلية أو صراعات طائفية!».

ولولا عزازيل زيدان ونبطيه ما أعادت السيدة الرحالة النظر في الإسكندرية وتراثها وأساطيرها وحكاياتها وبحرها وسمائها! وستروي لنا حكاية منها؛ تراجيديا الفليسوفة المغدورة هيباتيا شهيدة العلم والمعرفة والفلسفة

- 5 -

إنه كتاب السفر كمستودع عظيم للتجربة الإنسانية، وللحياة بأكملها، وبين النظر والاندهاش ولذة الاكتشاف، وبين التأملات والتحليلات مع طرح السؤال بنفس فلسفي، بلغة أهل الرسم والريشة والتشكيل «كولاج» ملوّن بألوان الروح والجسد، وكتابة مفتوحة وحرة تمثل نموذجًا لسرد جميل متدفق حار وحماسي يكاد يتطابق مع ساردته حسا وشعورا:

«وإذ تقرأ ما بين يديك تشعر بأن الحياة كلها كتاب مفتوح على أغرب الحكايات، وألا شيء يولد الغرائبية كهذا الإنسان في كل ما يصدر عنه، وأن الإنسان مهما كان بسيطًا من وجهة نظرك، إلا أنك بمجرد أن تلج عوالمه التي لم يكشفها لأحد، عندها أنصت جيدًا، فقد تعثر على حكاية أسطورية بشكل أو بآخر»؛ كما تقول نصًا وحرفًا.

السفر هنا قرين الدهشة والاكتشاف والتعرف والالتذاذ، مليارات من الأموال تنفق على السياحة، من يحبون الحياة، ومن ينتظرون الموت، الشباب والشيوخ، كلهم في نفس الطائرة، يفقد المكان بكارته، فيبحث السائح عن مكان جديد، تتخيل الأستاذة عائشة أن تنتهي السياحة عندما لا يجد السائح شيئًا جديدًا أو بكرًا، حتى ذلك الحين، لن نتوقف عن الترحال، نهرب من الوطن، أو نحمله في حقيبتنا، فنراه في كل شيء، نشعر أنه جاء خلفنا، ننزعج فنهرب إلى مكان آخر، لا نستطيع أن نطيل أعمارنا الزمنية، ولكننا نستطيع أن نعمق علاقتنا بالأماكن، وأن نطيل أعمارنا بالتجارب.

- 6 -

«هوامش في المدن والسفر والرحيل» كتاب يجعلنا نعيد النظر في ماهية السفر والترحال وحب المدن بنفس تأملي وجودي، سواء اخترتَ أن تحجز تذكرة، وتنزل مطارًا، أو سواء لم تسمح لك الظروف والأشغال بتحقيق هذه التجربة الإنسانية الممتعة إلا على الورق؛ مثلي تمامًا.

يمكنك أن تقول إنك أمام ترحال في معنى السفر وتجلياته واقعًا وأدبًا، واستلهامًا أيضًا، الرحلة في ذاتها هي الهدف، والسفر في حد ذاته هو السؤال والإجابة، إنه الدال والمدلول، وهو أحد مداخل فهم الإنسان، فهم الذات، وفهم الآخر، بل وفهم الأشياء التي تحيط بنا.