مرفأ قراءة... «فن الحب» في مرايا التحليل النفسي والفلسفي
- 1 -
«الحب ثقافة، ونحن لا نمتلك ثقافة الحب».. هكذا كتب ذات يوم أستاذنا الراحل الجليل الدكتور شكري عياد، ولعلي أضيف على ما قاله أستاذنا القدير، أننا أيضًا لا نعرف كيف نكتسب هذه الثقافة؛ ثقافة الحب، بل إن كثيرين منا يفرون من هذه المعرفة ويديرون لها ظهورهم، وهم يرفعون رايات الدفاع عن «الأخلاق الحميدة» و«السلوكيات القويمة» و«الدفاع عن آداب المجتمع وأعرافه».. فالحديث عن الحب في عُرفهم «عيب» و«حرام» و«بوابة جهنم».. إلخ ما هو معلوم بالضرورة عن هذا القطاع الواسع من الأفراد «المهاويس» في مجتمعاتنا الشرقية.
كان الحب ولا يزال (وسيظل؟! ربما!) الموضوع الأول والأثير للبشرية كلها، وعلى امتداد تاريخها، وهو الموضوع الأول والأثير للشعر والأدب والفن عمومًا، الحب بجميع درجاته وأحواله وتقلباته ومقاماته. كذلك مثّل الحب، الموضوع الأهم والأبرز في علومٍ إنسانية عديدة، منها على الأقل علم الأنثروبولوجيا (علم الإناسة)، وعلم النفس، وطبعا أم العلوم الفلسفة.
ومن لا يعرف (أو سمع على الأقل) عن «فرويد» ونظرياته عن الجنس والعاطفة والشعور، وما وراء الشعور، ويكفي أن نتذكر العمل الموسوعي الضخم «سيكولوجية الجنس» لصاحبه هافلوك أليس، حيث الكلام واضح وصريح عن الأصل الطبيعي للحب، وهو «التجاذب الجنسي»، كما يرى فريق لا يستهان به من العلماء والمتخصصين في تاريخ العلمين.
- 2 -
لكن سلامة موسى، الكاتب والمفكر المصري له رأي آخر في هذه المسألة، فهو يرى أن «هناك خطأ شائعا هو أن الحب بين محبين إنما يرجع إلى الغريزة الجنسية لا أكثر. وهذا التباس يحتاج إلى بعض التحليل، فإن الاشتهاء يرافق الحب، ولكنه ليس أصله، بل يحدث أحيانًا أننا عندما نحب امرأة حبًّا عظيمًا فإننا نرفعها إلى مرتبة من الطهارة، ونسمو بجمالها إلى معانٍ من القداسة، بحيث تتقهقر الغريزة أمام هذه الاعتبارات».
ويستفيض سلامة موسى في عرض حيثيات هذا التصور في كتابه الصغير «الحب في التاريخ»، مؤكدًا أن للإنسان غريزة جنسية، إذا تنبهت احتدت فاستحالت إلى عاطفة، فشهوة، فاندفاع قوي لا يكاد الإنسان يدري ما هو فاعل فيه.
ولكنّ للإنسان أيضًا عقلًا إذا تنبه لم يحتد، ولكنه يتأمل في أناة وتبصر، فيستحيل إلى وجدان يدري الإنسان ما هو فاعل فيه، وكلنا سواء في الغريزة، بل نحن والحيوان سواء فيها، ولكننا نتفاضل في الحب الوجداني الذي ينشأ عن «التعقل والتبصر»، فندري ما نحن بسبيله من التقرب للجنس الآخر، ونقدر الصفات ونزن الفضائل.
والحب الغريزي هو حب العاطفة، حب الشهوة والنظرة الأولى، وهو بعيد عن الحب الوجداني، الذي يزن ويقدر ويعرف القيم البشرية العالية. حب العاطفة هو الحب الأعشى القصير، وحب الوجدان هو الحب الفهيم البصير.
ولكن الحب ينتمي إلى أصل آخر، هو ذلك التعلق الذي نما في طفولتنا وربطنا بالأم، وهذا هو الذي يجعل في الحب حنانًا ورقة ورحمة. ونحن حين نحب امرأة إنما في الواقع نحب صورة الأم في وجهها وقامتها وصوتها، لأننا قد نشأنا على أن نُكْبِرَ من شأن الصفات التي تتحلى بها أمهاتنا.
ويخلص موسى إلى أننا يجب أن نقول: إن الحب العظيم ليس هو حب النظرة الأولى، حب العاطفة، وإنما هو حب التبصر، حب الوجدان والتعقل. ويجب أن نقول أيضًا: إن الحب ليس هو الشهوة، وما في الحب بين رجل وامرأة من عظمة ومجد وجلال، إنما يرجع في صميمه إلى الصفات السامية التي نعزوها إلى أمهاتنا، وإلى أخلاق اجتماعية قد علمنا إياها المجتمع، وإلى عادات عائلية مارسناها في طفولتنا.
وإذن يجب أن نقول أيضًا: إن الناس ليسوا سواء في القدرة على الحب، كما أنهم ليسوا سواء في القدرة على السعادة، لأن كليهما، الحب والسعادة، يتوقفان على مقدار ما عندنا من وجدان أي تعقل، وعلى مقدار ما أحببنا أمهاتنا، وعلى مقدار ما كان عند أمهاتنا من صفات سامية.
- 3 -
هذا بإيجاز تلخيص لبعض الآراء والأفكار التي عرض لها سلامة موسى عن الحب، والتي يمكن ردها أو رد الكثير منها إلى ما كتبه عالم النفس والفلسفة الشهير والمؤلف المعروف، إريك فروم، وخاصة في مؤلفه الفريد «فن الحب»، الذي صدر في طبعة جديدة، بترجمة سلسة قام بها صموئيل شفيق.
في هذا الكتاب الممتع، بترجمته الجديدة، يرى إيريك فروم أن جوهر الحب يتلخص في سعي الإنسان إلى نيل القوة والاتحاد، ويميز في هذا السعي البشري المستمر، أن الإنسان الأناني لا يحب ذاته بشكل «مفرط القوة»، بل بشكل «مفرط الضعف»، بل في حقيقة الأمر هو يكره ذاته. الشخص الأناني، بحسب فروم، حزين وكئيب، ويبذل جهودًا مرهقة، ذات طبيعة قلقة، ليختطف من الحياة المسرات التي هو نفسه يعيق حصوله عليها. ويبدو أنه يسرف في الاهتمام بنفسه، وفي واقع الأمر يقوم بمحاولات غير مجدية لإخفاء فشله في نيل الحب. ذلك أن الحب أبدًا لم يأتِ من الأخذ أو تحصيل المنفعة على حساب الآخرين، أو على رغبة التملك الشخصي الضيق، قدر ما يصدر عن رحابة عطاء أصيل وقوة روح صبورة ومتشبثة بالحب كأرفع شعور إنساني.
وفي هذا السياق، ينبغي التفريق بين «حب الذات» و«الأنانية»، فحب الذات لا يبنى على النقيض من حب الآخرين، وأحدهما لا يلغي الآخر. الحب الحقيقي يتجلى في المقدرة البناءة، في بذل الجهد، وهو بذلك يفترض الاحترام والاهتمام والمسؤولية والمعرفة. يحتاج الحب إلى بذل جهود واكتساب معرفة. ليس الحب نوبة طارئة أو شعورًا مفاجئًا كما يحلو لبعض الأفلام والأغنيات تجسيده. إن حبنا لشخص ما تركيز على مدى توفر موهبة الحب لدينا. وهذا يفترض حب الإنسان كإنسان لا كشيء يمكننا إخضاعه لنا أو مادة نملكها لنتصرف بها على الوجه الذي نشاء. ليس الحب شيئًا، وهو لا يتوجه إلى شيء، ولا يصدر عن شيء.
إنه علاقة مستمرة شديدة الحيوية، وليس نتيجة منتهية داخل مجال عاطفي ضيق وحسب. لا يمكن للحب أن يبحث عن الرضا والطمأنينية فقط، رغم إنه ضمنًا يبحث عنهما عندما يسعى إلى الحصول على القوة والاتحاد.
- 4 -
ويبرز «إريك فروم» فروقًا قلما ننتبه إليها بين أنواع من الحب، كالحب الأخوي والأمومي والجسدي. كلاهما، الحب الأمومي والأخوي، لا يقتصر على شخص واحد. يتجه حب الأم نحو طفلها الذي يشكل حالة من العجز دون اهتمام ورعاية الأم، فيما يفترض الحب الأخوي علاقة بين شخصين متساويين في القدرة عمومًا، النقيض لهذين النموذجين من الحب هو الحب الجسدي، إنه شكل متفرد من العاطفة المتقدة، شوق متوهج يتوق للذوبان الكامل، للتوحد مع شخص بعينه.
إن الحب الجسدي بطبيعته «استثنائي» وليس شاملًا، إضافة إلى ذلك يحتمل أن يكون هذا النوع من الحب أكثر أنواعه خداعًا، فبالنسبة لمعظم الناس تتم معرفة الحبيب المختار، بسبب خلط الحب بالشعور الجسدي القوي والمفاجئ، عبر القرب الجسدي المباشر، لأنهم يحسون بغربة الشخص الآخر قبل كل شيء كغربة جسدية، فإذا تخطوا حاجز الجسد ظنوا أنهم قد «نالوا عسل الغرام الذي سقطوا فيه».
يعتقد الناس أنهم يكونون أكثر قربًا من بعضهم البعض عندما يكونون معا، ولكن في كل تلك الحالات يسير «القرب المتوهم» إلى التلاشي تدريجيًا، مما يدفعهم إلى البحث عن القرب مع شخص جديد، غريب جديد.. وهكذا.
هذه دراسة تستحق القراءة، موضوعها «الحب» والبحث عنه الذي هو محط آمال البشرية ووجعها أيضًا.
إيهاب الملاح باحث مصري في مجال الأدب والتراث والثقافة
