No Image
ثقافة

فيلم استعارة الصندوق.. عزلة كونية لسجناء العالم الرقمي

14 أبريل 2024
العقاب وسط صناديق مقفلة ملقاة على ساحل مهجور
14 أبريل 2024

لا شك أن التنوّع المكاني والغزارة المرتبطة بمواقع التصوير وبالمناظر هي من بين أهم المميزات التي منحت الفن السابع تلك الخصائص التي يفترق فيها عمّا سواه من الفنون، ولهذا كانت النقطة الفارقة بينه وبين فن المسرح هو مسألة المكان الواحد الممثل في الخشبة في مقابل انفتاح لا حدود له على ما لا يحصى من الأماكن في الفيلم.

هذه المعطيات لاشك أنها كانت حاضرة بما فيه الكفاية وبشكل واضح لدى المخرج الأسترالي ديفيد كاتشان وهو يقدم على إخراج هذا الفيلم بعد مسيرة إبداعية حافلة عرف فيها بلغته البصرية الثرّة ومعالجاته الإبداعية للمكان ولكن ومع ذلك يكون قد دخل تحدي المكان الواحد أو الأماكن القليلة المحدودة في أحسن الأحوال ممثلة في هذا الفيلم.

انه فيلم مستقبلي يتحدث عن واقع ديستوبي قاتم عندما تتفشى الجرائم وتتطور معها وفي موازاتها الأساليب العقابية بحيث يعاقب الخارجون على القانون بحشرهم في صناديق تحملها طائرات الدرونز المسيرة وتلقي بها على حافة صخرية على شاطئ مجهول ومهجور.

السجناء بلا أسماء بل إنهم يحملون أرقاما تعرّف بكل منهم كما أنهم مراقبون على مدار الساعة بواسطة أنظمة رقمية نشيطة إلى درجة إيقاع المزيد من العقوبات وإطالة أمد السجن إذا ما أقدم السجين على المخالفة.

وهكذا سوف تبدأ رحلة العناء والقسوة فيما يتعلق بالفتاة التي تحمل رقما مجردا ( تؤدي الدور الممثلة كاسيا ستيملاش) التي تجد نفسها في ذلك الصندوق - السجن الانفرادي على الرغم من كونها تجهل سبب عقوبتها مع أنها لم تقترف شيئا لكنها تعلم جيدا أنه في تلك الحياة الديستوبية القاحلة لا أحد يصغي إلى الآخر.

من هنا يمكننا إدراك نوع التحدي الذي واجه المخرج والممثلين وكذلك مدير التصوير وذلك بسبب الاقتصار على مكان واحد مغلق بكل ما يعنيه ذلك من رتابة وتكرار واختيارات محدودة للزوايا وحركات الكاميرا.

ومع ذلك وجدنا الشخصية الرئيسية وهي تعيش أجواء ذلك السجن الانفرادي، فإنها تتنقل بنا بين تحولاتها النفسية وردود فعلها وسعيها غير الموفق مع سجّانيها لإقناعهم بالإفراج عنها بينما هي في الواقع تتعامل مع أنظمة رقمية وأصوات روبوتية وليست بشرية مما يعمق الحساب بجدب الذات الإنسانية والأزمنة القاحلة التي عصفت بالبشرية.

في موازاة ذلك يقدم الفيلم شخصيات موازية هائمة على وجهها وهنالك من يحاول مساعدة أسرى تلك الصناديق الرقمية المغلقة لكنه بدل تقديم العون لهم فإنه يضعهم تحت طائلة العقاب.

بالطبع يكمل الفيلم أفلاما أخرى تذكرك برهاب الأماكن الصندوقية أو الأماكن المغلقة وحيث الشخصية تكافح من أجل البقاء ولكن دونما جدوى وهنا يمكننا أن نتذكر أفلاما مثل: غرفة فيرمات - 2007 وفيلم امتحان 2009 وفيلم المكعب -1997 وفيلم الهُوية -2003 وفيلم في داخل الرقم 9 – 2014 وفيلم النفق -2016 وفيلم الجدار -2017 وغيرها من الأفلام.

وأما إذا ذهبنا إلى ما هو أبعد فهو النظر إلى الذات البشرية وهي تنسحق تحت وطأة النظام المتجرد من أية مشاعر إنسانية والذي ينفذ أجندته على أساس ذلك النوع من العقاب الذي يتم تنفيذه في تلك الزنازين المبتكرة الرقمية التي يتم في داخلها إلغاء هُوية الإنسان وتحويله إلى رقم مجرد بلا قيمة وفي حال إنزال العقاب بالسجين وصولا إلى قتله بطريقة ما وهو في داخل زنزانته الصندوقية فلا أحد سوف يسأل عنه أو يهتم بأمره وسوف يرمى في البحر بكل بساطة.

هذه المعطيات تقدم لنا مجتمعا إشكاليا من المهم المضي في اكتشافه وتحليله على أنه صورة إشكالية لجيل أو أجيال قادمة تعيش تلك الأجواء الخانقة القاتلة.

ولعل المكان الواحد كما ذكرنا في بداية هذا المقال قد جعل الفيلم أقرب إلى الشكل المسرحي ولهذا لا تستغرب الانتقال إلى الشكل المسرحي من خلال إيجاد مشتركات يقع في مقدمتها الحوار وهو الأداة الرئيسية لشخصية السجينة، وهو في الواقع حوار في شكل خليط من المكابدات والمعاناة والهموم ووصولا إلى انسحاق الذات تحت وطأة نظام لا يرحم ولهذا يدمّر نفسيات السجناء من خلال تمديد الأحكام والتلاعب بمشاعر السجناء وإيذائهم نفسيا.

ولعل الحل الإخراجي الذي لجأ إليه المخرج تمثل في ذلك الحوار العقيم مع الشخصيات الزائرة وهؤلاء لا جدوى من وجودهم فهم أقرب إلى الشخصيات التي تتجسس على أولئك الأبرياء أو المضطهدين وهم يعيشون عالمهم الخاص الذي لا نعلم عنه شيئا سوى انه نظام متطور وإصلاحي لكنه في نفس الوقت نظام يفتش عن ضحاياه فيوقعهم في حبائله ويزيد من أحكامهم السجنية بلا رحمة ولا أدنى تردد.

على أن الانعطافة المهمة في كل هذا هو محاولة إيجاد منظومة اجتماعية تشمل هؤلاء لكننا نجد أن تلك المنظومة تنتمي إلى حال التفكك الإنساني والانغلاق واللاجدوى.

هذه الخلاصة يؤكد عليها الناقد السينمائي في موقع فيلملينك جاك بينو في كون الأحداث تقع في عالم بائس، ولها جمالية مماثلة لفيلم لعبة الجوع وأما المهارات المضافة فتقع في مقدمتها إدارة التصوير السينمائي من طرف جيسون فون درايكو فهو الذي قاد سلسلة المشاهد الجمالية بتجرد حافظ فيه على بنية الحبكة الدرامية وفي ذات الوقت حاول كسر قيد ورتابة المكان الواحد من خلال الاعتماد على حركات الكاميرا والزوايا فضلا عن استخدامات الإضاءة.

وأما إذا توقفنا عند المزج بين الشخصيات على اختلاف أعمارها، فالملاحظ هو أن المخرج في استحواذه على وقت المشاهد قد دأب على تقديم قرابين النظام الديستوبي الظال الذي لا يرحم من خلال إماتة الناس جوعا.

هذا الجانب الإشكالي يتحدث عنه الناقد اليكس بلينغتون الذي يستعرض الملامح الجمالية وأسلوب العمل لغرض الخروج بفيلم قادر على المنافسة وجلب الجمهور العريض، إذ يقول هذا الناقد، : إن المعالجة السينمائية لهذا الفيلم الذي يجمع بين الديستوبيا والخيال العلمي والدراما إنما تذكرنا بفيلمين هما المكعب – إنتاج 1997 وفيلم الهروب من الكاتراز – إنتاج 1979، وقد وظف المخرج ذلك الإرث الجمالي الذي كرسه الفيلمان آنفا الذكر وأفلام أخرى من ذات النوع حتى خرج لنا بهذه الحصيلة التعبيرية المتميزة التي جعلتنا أكثر تفاعلا مع الشخصية".

وتبدو هذه الإشارة كافية لكي ندرك أساس تلك المعادلة الجمالية التي اعتمدها المخرج وفريقه في الارتقاء بالعناصر الجمالية المحدودة لغرض كسر طوق العزلة التي تعيشها الشخصية وهي تنتظر فرصة أو أملا في الحصول على البراءة بينما في الواقع ينتظرها مزاج سادي شديد الغطرسة والإيذاء لا يتورع عن الفتك بضحاياه لأبسط الأسباب وهي ميزة إضافية عبرت عن انسحاق الإنسان تحت وطأة تلك التكنولوجيا والعالم الرقمي الذي تفوقت فيه الروبوتات على البشر واللوغاريتمات على أية مشاعر بشرية.