No Image
ثقافة

صوت من البعيد (6): الثبيتي العابر لـ"تضاريس" القصيدة

28 نوفمبر 2022
28 نوفمبر 2022

تمرُّ قصيدة (التضاريس) للشاعر السعودي محمد الثبيتي (1952-2011)، المنشورة عام 1984م في مجلة الأقلام العراقية بمنعرجات مهمة في الكتابة الشعرية الحديثة، فهي أشبه بتضاريس جبلية وعرة يتحاشاها السائر؛ فقد شكّلت القصيدة في تكوينها بناء تضاريسيا في اللغة والدلالات والصُّور الشعرية المتنوعة.

لقد قامت قصيدة (التضاريس) للثبيتي على أربعة مقاطع شعرية، أعطى كلّ مقطع شعريٍ عنواناً مختلفاً أسفل العنوان الرئيس، وتناول كل مقطع شعري دلالات عميقة تُعبّر عن النفس الإنسانية مانحةً الذات رسماً تعبيرياً وانطلاقةً واضحة وفلسفة مهمة في الحياة والكون.

لقد قسّم الثبيتي تضاريسه الشعرية إلى أربعة مناطق وعرة؛ فبدأ رحلة التضاريس بـ"ترتيلة البدء"، ثم "القرين"، ثم "المغنّي"، ثم "الصعلوك"، لتنطلق القصيدة عند الثبيتي من كونها نصاً مؤسِّساً للوصف الداخلي للشخصية، ربما يرى الشاعر فيها انطلاقاً لذاته منها، فرسم وجوهاً وأقنعة متشكّلة من مسارات الحياة التي يعيشها فجاءت تضاريسه/ دلالاته الشعرية مرتبطة بالرمل والبحر والنخل والشمس والحجارة والموت والنار والماء والتراب...

إنّ الحياة التي يعيشها الشاعر وعرةٌ مثل تضاريسه، حادّة وقاسية وتحيل على المخاض والموت في التقاءٍ غريبٍ، وما بينهما تتشكّل الحياة القاسية وتتشكّل القصيدة.

تنطلق القصيدة في مقطعها الأول من تشكّل البداية الأولى للإنسان على هذه الحياة؛ إذ تبدأ رحلة تكوينه من المخاض القاسي إلى الموت الفاجع، فتستعير اللغة دلالات التكوين من الإنسان إلى الجماد، ليصبح الجماد مشاركاً في عملية البدء والتشكّل. إنها خطوة نحو الانطلاق إلى مجاهل الحقيقة. تأتي الدلالات معبّرة عن ذلك، وجامعة كل تلك الصور في طواف أول معبّرٍ عن العَرّاف/ المجهول الذي ينطلق إلى رمال مجهولة محاولاً تفسير نبوءاته في بحر الحياة:

جئتُ عرّافاً لهذَا الرَّملِ

أسْتَقْصِي احتِمَالات السَّوادْ

جئتُ أبْتَاعُ أسَاطيرَ

ووقتاً ورمَادْ

بينَ عينيَّ وبين السبتِ طقسٌ ومدينةْ

خدرٌ ينسابُ من ثدي السَّفِينةْ

هذه أولى القرَاءاتِ

وهذا ورقُ التِّينِ يبوحْ

قُلْ: هُو الرَّعدُ يُعرِّي جسدَ الموتِ

ويستثني تضاريس الخصوبةْ

قُلْ: هِيَ النَّارُ العَجِيبَةْ

تستوي خلف المدارِ الحُرِّ تِنِّينَاً جميلاً..

وبكارةْ

نخلةٌ حُبلى،

مخاضاً للحِجَارةْ

***

مِن شِفَاهي تقطُرُ الشَّمسُ

وصمتِي لُغةٌ شاهقةٌ تَتلو أسارير البلادْ

هذه أولى القراءات وهذا

وجه ذي القرنين عادْ

مُشرباً بالملح والقطران عادْ

خارجاً من بين أصلابِ الشياطينِ

وأحشاءِ الرمادْ

حيثُ تمتدُّ جذور الماءِ

تنفضُّ اشْتِهَاءات الترابْ

يا غراباً ينبش النارَ

يُواري عورة الطينِ وأعراس الذبابْ

حيث تمتدُّ جذور الماءِ

تمتدُّ شرايين الطيورِ الحمرِ،

تسري مهجة الطاعونِ،

يشتدُّ المخاضْ

يا دماً يدخل أبراج الفتوحاتِ

وصدراً ينبت الأقمارَ والخبز الخرافيَّ

وشاماتِ البياضْ.

إنّ أنسنة الجمادات مثل: (ثدي السفينة، والرعد يُعرّي جسد الموت، وتضاريس الخصوبة، ونخلة حبلى، ومخاض الحجارة، ومن شفاهي تقطر الشمس، وأسارير البلاد، وأحشاء الرماد، وأصلاب الشياطين، واشتهاءات التراب، وعورة الطين) قد قدّمت ملامح البدء والتكوين لا سيما في امتزاجها الفلسفي بالمخاض والموت، وكأنّ الشاعر يصوّر الحياة ما بين ملامح غربة تتشكّل من المخاض إلى الموت في لحظات ترتبط بالواقع الذي يصطدم به الإنسان.

إنّ الغربة والرحيل ملمحان في المقطع يدلان على الغوص في أعماق الذات، وما استدعاء الأسطورة والتراث في النص واقترانهما بترتيلة البدء إلا دلالة على الانتقال الزمني، والسير في اتجاهات الزمن المختلفة دلالياً في بناء النص الشعري وإيجاد بنية قائمة على الطبيعة الحية؛ فنجد انطلاقة النص قائمة على البحث عن الأساطير والتراث: "جئتُ أبتاعُ أساطير ووقتاً ورمادْ"، ثم تُعلنُ الأسطورة عن التشكّل في "وجه ذي القرنين"، والغراب الذي ينبش النار ويواري عورة الطين، الصورة التي يتناص فيها الشاعر مع قصة قابيل وهابيل في القرآن الكريم.

هكذا تنطلق القصيدة في تكوين دلالاتها، ثم تأخذ منحى آخر متمثلاً في رسم صورةٍ تضاريسية للشخصية المتخيلة/ الذات قائمة على اتجاهات ثلاثة بدلالات مغايرة فيما بينها.

في المقاطع التي تلي المقطع الأول تتشكّل الشخصية وفق دلالات يغرسها الشاعر ويعمد منها إلى إعادة بناء القصيدة/ الشخصية/ الرمز مكتشفاً عمق بواطنها وحركتها الدلالية. ففي مقطع "القرين" تأخذ الدلالات من الشخصية روح الحركة والانتقال معتمدة على المكان في تأسيس تكوين داخلي، فالقرين مرادف الشيء، وعليه فإنّ الشاعر يتخذ منه ذاتاً قائمة على التشكّل، ليكون الحوارُ مادّةً تجمع القرينين في عملية البناء الشعري:

مقيمٌ على شغف الزوبعةْ

له جانحان، ولي أربعةْ

يخامرني وجهه كلّ يومٍ

فألغي مكاني وأمضي مَعَهْ

أفاتحه بدمي المستفيقِ

فيذرفُ من مُقلتي أَدمُعَهْ

وأُغْمدُ في رئتيه السؤالَ

فيرفعُ عن شفتي إصبعَهْ

• أما زلتَ تتلو فصول الرمالِ؟

• أقامر بالجرحِ..

أقرعُ بوّابةَ الاحتمالِ

• "أأشعلتَ فاصلة الارتيابْ؟"

• دمي مشرع للتحوّل والانتصابْ

• أتدرك ما قالت البوصلةْ؟

• زمني عاقرٌ

قريتي أرملةْ

وكفّي مُعلّقةٌ فوق باب المدينةِ

منذُ اعتنقْتُ وقار الطفولةِ

وانْتَابَنِي رمدُ المرحلةْ.

لدى سادنِ الوقتِ تشرقُ بِي

جرعةُ الماءِ

تَجنحُ بِي طرقاتُ الوباءِ،

تلاحقني تَمْتمات البسوسْ

أرى بين صدري وبين صراط الشهادةِ

شمساً مُراهقةً

وسماءً مرابطةً

ويَميناً غموسْ.

الأمر ذاته في المقطع الثالث "المغنّي" عندما حاول ابتكار الشخصية وصنعها في القصيدة ليصير الحوار مادّة الصنع والتكوين، فتتقارب الذاتان وتتشابه وتتداخل مصائرهما:

– كيفَ أُغْمِدُ أوردتِي في السديمْ..

كيفَ أخرجُ من شبقِ الطينِ

موتاً يتيمْ؟

– ابْتَكِرْ للدماءِ صهيلاً

تَدَثَّرْ بِخاتِمَةِ الكلماتْ

بالبخورِ الذي يتناسلُ في الطرقاتْ

ابْتَكِرْ للرماحِ صبوحاً

دماؤك موغلةٌ في القناديل

وجهكَ مُنتجعٌ لِلُّغاتْ

ابْتَكِرْ للطفولةِ شكلاً..

كتاباً تطارحهُ الخوفَ،

تقرأ فيه محاقَ الكواكبِ،

تكتبُ فيه حروفَ الندمْ

ابْتَكِرْ للطفولةِ عرساً تُعلِّق فيه التمائمَ

واللعبَ الورقيَّةَ.. والأغْنياتْ.

تنطلق الدلالات عبر اتجاهات مختلفة: (الزمن، العودة إلى الوراء والتاريخ، الطبيعة والبيئة، الحزن والوجع) وكلها دلالات تحاول رسم شخصية المُغنّي متقاربة مع الذات الشعرية. إنّ انتقاء الدلالات بعناية فائقة ركيزة تقوم عليها نصوص الثبيتي مُحدِثَةً نغماً وإيقاعاً له صداه في القصيدة، وإنّ اجتماع الصحراء ومرادفاتها له تعبيره المهم في بناء النصوص الشعرية؛ فنجده يحاول المزج بين دلالاتها، نجده مثلا حين يقول:

قال المغنِّي:

يُعاقرني كُلّ يومٍ غيابُ القوافلِ

قلتُ:

يؤرِّقُك الزمنُ المُتقابلُ

للجرح بوابتانِ:

من الخمر والزنجبيلْ

للقصيدةِ بَحرٌ طويلٌ

وليل طويلٌ

ودهر طويلْ.

قال المُغنّي:

لصوتِيَ رائحةُ الجوعِ

قلتُ:

لوجهكَ لونُ البراريَ

للجرحِ وجْهانِ:

من ظمأٍ نادمتْهُ الحناجرُ

من وطنٍ للطريق المهاجرِ

يَحْتدُّ صوتُ المُغنّي..

يُكبِّلُ فِي قامةِ الريحِ امرأة

وكتاباً

وقبراً قديمْ.

إنّ قصيدة التضاريس أشبه برحلةٍ زمنية قائمة على التمدّد الزمني ضمن مراحل مختلفة أرادها الشاعر، فمنذ البدء والتشكّل تسير بنا "ترتيلة بدء" إلى مراحل مختلفة وطواف في الحياة متمثل في "القرين والمغنّي" اللذين يرمزان للحركة وحرّيتها، ثم إلى التشرّد والتيه في مقطع "الصعلوك" الذي بنى خلاله دلالات التيه اللغوية بتوظيف مفهوم الصعلكة شعراً. نجده يمزج في دلالاته بين (الخوف والجوع والشعر والصعلكة والتهلكة) مُقدّماً صورة تمزج بين الشعر والإنسان، وبين التيه والصعلكة، وبين اللغة والإبداع:

يفيقُ منَ الخوفِ ظُهراً

ويَمضي إلى السوقِ

يحملُ أوراقَهُ وخُطاهْ

– مَنْ يُقاسمني الجوعَ والشِّعرَ والصَّعْلَكَةْ

مَنْ يُقاسمني نشوةَ التّهْلكةْ؟

– أنتَ أسطورةٌ أثخنتْهَا المجاعاتُ

قُلْ لِي:

متى تثخن الخيل والليل والمَعْرَكَةْ

***

يفيقُ منَ الجوع ظُهراً

ويبتاعُ شيئاً منَ الخبز والتمر والماءِ

والعنبِ الرازقيِّ الذي جاءَ مُقتحماً

مَوسِمَهْ

– مَنْ يُعلِّمُنِي لعبة مُبْهَمَةْ

– تَرَجَّلْ عنِ الجَدْبِ واحْسِبْ خطاياهُ

واسْفكْ دَمَهْ

***

– يفيقُ منَ الشِّعر ظُهراً

يَتَوسَّدُ إثْفيَّةً وحِذاءْ

يُطَوِّحُ أقدامهُ فِي الهواءْ

– مَنْ يُطَارحُنِي قمراً ونساءْ

– ليسَ هذا المساءْ

ليسَ هذا المساءْ

ليسَ هذا المساءْ.

إنه الإنسان حين يكون الفضاء مسرحاً لأحداثه وتنقلاته، وهو الشاعر حين يوظّف تخيلاته الشعرية مُقدّماً صورةً عن الذات والإنسان والكون. لقد جاءت تضاريس الثبيتي مليئة بالتفاصيل عن الواقع والإنسان إلا أنّ اشتغالات اللغة استطاعت أن تكون قريبة من الشاعر ومن الصناعة الشعرية، فعملت على تقريب الصورة، وبناء الفكرة جيداً، بل إنّ الثبيتي أمسك بشعرية النص موظّفاً لها وفق رؤيته الشعرية.