ثقافة

شبابيك بشاير المُطلّة على صورٍ متخيلة

20 سبتمبر 2021
قراءات في القصة القصيرة جدا في الأدب العماني (2-3)
20 سبتمبر 2021

خالد بن علي المعمري

إذا كان عز الدين المناصرة قد استلَّ مفهوم «التوقيعة الشعرية» أي القصيدة الومضة من فن التوقيعات والذي أخذه كما يقول من (التوقيعات النثرية العباسية، والمقطعات الشعرية، وفن الهايكو الياباني)، ألا يمكن أن نعدَّ القصة القصيرة جدا جنساً متفرّعاً أيضا من فن التوقيعات، لا سيما وأنّ المناصرة في تعريفه للتوقيعة الشعرية قال: «وتستخدم التوقيعة (أحيانا) أساليب السرد...»؟

ورغم أنّ القاصة بشاير حبراس قد تطرقت إلى الفرق بين التوقيعة والقصة القصيرة جدا، ونَفَتْ أن يكون هناك رابط بين الجنسين، حين قالت: «وأجزم أنّ القاسم المشترك بين القصة القصيرة جدا ونصوص التوقيعات هو القصر وحسب، إضافة إلى الإيجاز والتكثيف. ولا أظن أن هذا أيضا يجعلهما شيئا واحدا ولا يجعل من القصة القصيرة جدا وريثة لنصوص التوقيعات»، فإن الخصائص العامة للقصة القصيرة جدا مثلما ذكرت بشاير تكاد أن تكون متداخلة مع الخصائص التي عرَّف بها المناصرة قصيدة التوقيعة، وهي تُشكّل عناصر مهمة في بناء مثل هذه النصوص.

لذا تنطلق بشاير حبراس في مجموعتها (شبابيك زيانة) الصادرة عن مجلة نزوى عام 2020م من العناصر المُشكلة للقصة القصيرة جدا، معتمدة على الإيجاز والتكثيف في أكثر المواضع، ونابعة من اشتغالاتها على الفكرة المتخيّلة في المشهد الذي تُقدّمه، ومبتعدة عن تشكّلات اللغة التي لا ترى فيها ما يخدم فكرتها، فلم نجد اهتمامها الكبير باستخدام اللغة الشاعرية، أو الاعتماد على عنصر الخيال في نصوص المجموعة.

كما إنّ الناظر في قصص المجموعة يجد أن بشاير قد حاولت الاعتماد على تطوير الجملة المفتاحية أو الاتكاء على القفلة في النص، مُقدّمةً جملتها أو قفلتها في سياق لافت للقارئ، تدعوه إلى التأمل وإعادة متابعة المشهد السردي. إنّ القفلة عنصر مهم في بناء القصة القصيرة جدا، وهي من العناصر التي حاولت بشاير تفريق القصة القصيرة جدا عن التوقيعات، لذا كان الاهتمام بها كبيرا في الكتابة القصصية، إذ يقوم عليه بناء القصة، ويدفع بالأحداث إلى التطور والنمو.

في قصة (المسمار) ربطٌ كبيرٌ بين المسمار وبين صورة الأب، إذا تصنع في قصتها علاقة قائمة بين الصُّور/ الأبناء، وبين المسمار/ الأب، علاقة السَّنَد والترابط والاتكاء. في هذا النص لم تُطِل الساردة سردها، وفي سطرين اثنين رسمت المشهد الذي تتخيله، ثم في قفلة مدهشة أحكمت إغلاق الحكاية، تقول: «ما التُقِطَت صورة جماعية للعائلة إلا ورفض الأب الانضمام إليهم، وكان دائما يقول: أنا المسمار. مات، فسقطت كل الصور عن الجدران». (ص39)

أيضا تحاول بشاير جاهدة أن يكون نصها قصصيا خالصا، لا يتداخل مع غيره من الأجناس، لذا فإنها تُحكم سيطرتها على الشخصيات، وتدفع بهم في التصور الداخلي، وفي تحولات طبائعهم مانحة الحدث انفتاحا وتأزما في الجملة مع كل شخصية من شخصياتها في النصوص، ووفق كل موضوع تحاول مناقشته تصنع شخصياتها بأدوار تناسب ذلك الموقف.

تنفتح شبابيك بشاير القصصية على تخيلات واسعة استرعت انتباه السارد، تخيلات منطقية أحيانا اقتضتها بنائية الصورة، وأحيانا مأساوية تفيض بالوجع، فتكثر الإسقاطات على هيئة صُوَرٍ مُحمّلةٍ بأزمات وخيبات النفس البشرية، وصُورٍ منكسرةٍ أرهقتها المشاعر المكبوتة. فهل كانت بشاير تبحث عن الوجع بين الصور التي تراها، لتقدمها إلى القارئ مازجة بينها وبين حسية الصورة؟ إنها تقدّم الوجع المخبوء في النفس الإنسانية على صورة حكايات سردية: صورة متنافرة ومتقابلة للأب وللأم في غير موضع من صراعات الشخصيتين، وصورة متعددة للفتاة المرتبطة بالأسرة، والتي تخفي انكسارها وقلقها ووجعها الداخلي في علاقات الحياة البائسة.

إنها اشتغالات تقوم على توتّر الفعل، وتوتّر الأشخاص، وتوتّر الصورة التي تقود إلى عالم سردي متخيل/ فوضوي تنفجر عوالمه من الواقع السردي للحكاية. ويمكن للقارئ الوقوف على قصص مثل: (سيارة سعدة، مانيكان، والصورة، والثقب، ورجل واحد) للتعرف على ارتباط عالم الشخوص المتخيل بسير الأحداث رغم قصره، ومدى تمزّق الحدث بتمزّق دواخل الشخصية.

في قصة (سيارة سعدة) تتلاعب الساردة بشخصياتها، وتُحرّكها وتنمّي مواهبها مرتبةً مع الأحداث: فعل الرسم أول القصة يقابله المعرفة، وفعل السماح بالقيادة يقابله التعلم، وفعل القيادة يقابله المغامرة والاستكشاف. إنّ الشخصيات هنا تتحرك مع بعضها، وتستفيد كل شخصية من الأخرى، وتحاول الساردة إبراز مواطن التخيل: فسعدة تقود السيارة (التي رُسمت على السبورة) رغم عدم إجادتها للقيادة، والمعلمة تساعدها بتحريك السيارة على السبورة ونقلها من موضع لآخر، وعَروب تعرقل حركة السير برسم نخلة على خط السير، ومليكة تساعد سعدة برسم الفرامل غير الموجودة في السيارة، ولكنها ترسم سيفين أسفل الإطارات فتثقب الإطارات، وتصطدم سعدة بالنخلة.

يقوم المشهد التصويري هنا على فعل الحركة سواء الفعل المتخيل داخل مشهد الرسم، أو الفعل الحقيقي الذي يقرأه القارئ ويتشكل في ذهنه في هيئة مشهد قائم في حقيقته (قيادة السيارة، ووجود شجرة في الطريق، ثقب الإطارات، الاصطدام بالشجرة). إن هذا المشهد يفتح آفاق التخيل، ويوسع من فعل الحركة في مقطع قصصي قصير لا يتجاوز الصفحة، تتلاعب فيه الساردة بشخصياتها وتحركهم، وتعكس انطباعهم ومدى تقبّلهم وتفكيرهم.

إنّ النصوص التي تناولتها مجموعة (شبابيك زيانة) هي في مجملها صُورٌ متخيلة متحركة، حاولت من خلالها استنطاق مشاهد حياتية متعددة. إنّ نصوصا مثل: (رجل واحد، والفزاعة، وأمي تكذب، والأم، والصورة الملعونة) هي قصص يمكن تحليل أحداثها، وشخصياتها، وصراعاتها الداخلية ضمن بنائية محكمة تخضع لإسقاطات واقعية تتفاعل ضمنها الشخصيات مع الفعل الزمني المنفتح على جوانية المشهد. لقد صنعت الساردة من فزاعة الحقل روحاً تشعر وتُحسّ بالخجل، وتتفاعل مع الموجودات، وتُخفي مشاعرها عن الجميع. وفي مشهد قصصي قصير جدا استطاعت أن تنتقل بالشخصية من حال إلى أخرى، وأن تصنع من جسد الشخصية فضاء واسعا تنال منه الجراح والمآسي، إنك حين تقرأ نصا يقول: «لم يُشعر الفقرُ الفزاعةَ بالخجل من قبل. يخجلها فقط أنها لم تجرّب هشَّ العصافير. لكنها مذ حلَّ الشتاء وشعر الفلاح بالبرد، باتت تخجل من كل شيء وتتمنى لو أن العصافير التي تقصد الحقل بالخطأ لا تتمكن من رؤيتها عارية». (ص30) فإنك تقرأ نصاً يثير داخلك مفاهيم الفقر والهيمنة والاستيلاء والحرمان أكثر مما لو قرأت ذلك في مقالات أو كتب تنظر لتلك المفاهيم، فلقطة المشهد تحيل على أبعاد إنسانية تتجلى في المنبوذ (الفزاعة)، والمهيمن (الفلاح).

لقد قدّمت مجموعة (شبابيك زيانة) تجربة قصصية ثرية بتنوع الصور والمشاهد، فهي لم تتكلف الإطالة، ولم تُخلّ بالإيجاز، لقد فتحت بشاير الشبابيك، ونسيت أن تغلقها فتسرّب الضوء منها للقارئ.