No Image
ثقافة

د. حمزة المزيني: معرفة لغة أخرى مفتاح للثراء المعرفي والفكري وسبيل للحد من انتقاص الثقافات الأخرى ولغاتها

03 يونيو 2023
مؤكدا أن مكمن «أزمة» اللغة العربية في «احتفائنا» أكثر مما نعمل بها
03 يونيو 2023

يعد الناقد والمترجم السعودي الدكتور حمزة بن قبلان المزيني أحد أهم الأسماء في مجال الترجمة والنقد اللغوي، إذ شغل سابقا منصب أستاذ اللسانيات في جامعة الملك سعود بالرياض حيث ركّز على ترجمة مؤلفات اللغوي والفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي إلى العربية.. ويتميز «المزيني» بمقالاته الرصينة والمؤثرة في نقد المناهج ونقد مفاهيم أسلمة المعرفة، وفي نقد التيارات التقليدية، وقد تعرَّض لسجال معروف أصدر فيه القضاء حكما صارما ضده، قبل أن يتدخّل «ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبدالله بن عبدالعزيز» بإلغاء الحكم وصدور قرار يقضي بإحالة جميع قضايا الاعتراض على مخرجات التعبير والرأي إلى لجنة في وزارة الإعلام لا إلى القضاء، في إشارة إلى أهمية الاختلافات الفكرية وتقبُّل الرأي والرأي الآخر.. وضمان حق الجميع في التعبير عن آرائهم دون خوف من التعرُّض للمساءلة القانونية.

وفاز الدكتور حمزة المزيني بجائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة في دورتها العاشرة عام 2022م، وهو صاحب أكثر من عشرة مؤلفات وأكثر من 20 كتابا مترجما، في هذا الحوار، سنتحدّث مع الدكتور المزيني عن مجال الترجمة وآفاق اللغة العربية في العالم الحديث...

نبدأ من الجلسة الحوارية التي شاركت فيها في مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) خلال فعاليات الحفل الختامي لبرنامج «أقرأ» والتي حاولت النظر إلى واقع حالة القراءة في العالم العربي، وماذا يقرأ الجيل الحالي؟.. يواجه العالم العربي أزمة في عملية القراءة، ما رأيك في هذه الأزمة وما دور الكُتّاب في تشجيع القراءة وإعادة إحيائها، خاصة أن الجلسة أكدت أن الإحصاءات التي تعلن سنويا كمؤشر على تقدم القراءة أو تراجعها ليست دقيقة، مما يشير إلى ضرورة تطوير استراتيجيات وسياسات وطنية على المستوى الدولي لرفع مستوى التعلم القرائي بهدف تعزيز ذائقة المتلقي وزيادة الاهتمام بالقراءة، إضافة إلى رفع مستوى التعليم التربوي في مناهج التعليم، لتحقيق هذا الهدف؟

هناك وجه جديد لأزمة القراءة الآن، كما لاحظتُ في جلسة «إثراء» التي أشرتَ إليها، وهي أزمة عالمية تعاني منها الثقافات كلها، ومما يشهد بوجودها وخطرها، مثلا، ما أشار إليه الكاتب الأمريكي المعروف إزرا كلين في مقال نشرتْه صحيفة نيويورك تايمز (28/5/2023)، إذ يقول إن الإنترنت في العقود الثلاثة الماضية صار وسيلة قوية لتوفير المعلومات والنصوص بشكل غير مسبوق ولتسهيل حفظها واسترجاعها بكفاءة عالية. لكن وفرة المعلومات والنصوص الطوفانية هذه صارت سببًا في تراجع تركيز القراء على ما يَقرؤون بسبب سهولة التنقل بين الروابط من النص المقروء إلى مزيد من المعلومات والنصوص المشابهة بعملية تشبه الطوفان.

كما يشير إلى أن مشكلة تراجع التركيز على ما يُقرأ تضاعفت أضعافًا خيالية بسبب برامج الذكاء الاصطناعي الجديدة التي تزيد من كمِّ المعلومات والنصوص بشكل أكثر طوفانية حتى أنها ربما تحاصر القارئ وتزيد من التشوش على ذهنه حتى لا يستطيع التركيز على ما يَقرأ.

ويطالب «كلين» بألا نقع، في تعاملنا مع برامج الذكاء الاصطناعي الجديدة، فيما وقعنا فيه من حيث التعامل مع الإنترنت التي لم تُخلق معها بيئة لتقنين عملها مما جعلها تسهم في تشتيت الأذهان وشغلها عن التركيز، ثم يقترح أن تُخلق مثل هذه البيئة لبرامج الذكاء الاصطناعي حتى لا تُغرق مستخدميها في دوامة ما تنتجه من نصوص تتسبب فيما يكاد يكون شللا للذهن البشري بدلا من كونها أداة تساعده في إنجاز ما يريد.

ومن هنا، فالسؤال عن دور الكتّاب في التشجيع على القراءة الآن ربما لا يكون له معنى مع هذا الطوفان الجارف من النصوص والمعلومات!

لكنك كمتتبع كيف تقيّم حالة اللغة العربية اليوم؟ وما التحديات التي تواجهها في عصرنا الحالي؟ خاصة أننا نحتفي بها أكثر مما نعمل بها «احترافيا»؟

تتمثل «أزمة» اللغة العربية «الأدبية» اليوم في «أننا نحتفي بها أكثر مما نعمل بها»، كما أشرتَ أنت، وأهم أزمة تواجهها أنها لا تُعلَّم بطريقة تمكِّن من تعلُّمها الكفء. فالمشاهَد أن طلاب التعليم العامّ يقضون اثنتي عشرة سنة في تعلُّمها لكنهم لا يحققون في نهاية التعليم العام مستوى مرْضيًّا فيها.

والسبب الأول لهذا القصور أن ما يعلَّم منها طوال تلك السنوات لا يزيد عن تعليم معلومات عنها، أما اللغة نفسها فغائبة، ويعود هذا إلى أن القائمين على تعليمها يظنون أن تعليم النحو والصرف والعلوم اللغوية الأخرى هي الطريقة الكافية لتعليمها، إضافة إلى أن ما يقدَّم للطلاب من نصوصها كثيرًا ما يكون مصطنعًا باهتًا مؤطرًا بقضايا أيديولوجية - دينية أو سياسية أو غير ذلك.

أما الطريقة الأنجع فهي أن تقدَّم لطلاب التعليم العام نصوص طبيعية مما تزخر به الكتابة العربية قديمها وحديثها، وأن يعتنى عناية فائقة بمهارتي القراءة والكتابة، وذلك ما يربي ذائقتهم اللغوية والأدبية ويُكسبهم البنيةَ اللغوية العربية النحوية بطريقة تلقائية.

ولو اعتُني بتقديم اللغة العربية «الأدبية» بهذه الكيفية لتحسّن وضعها بعد جيل أو جيلين إلى مستوى عال من الكفاءة اللغوية «الأدبية».

في «أدب السيرة»: قلة ممن يسجلون الحقائق والواقع بتفاصيلها الدقيقة دون إلغاء ما هو مؤلم أو بتفاصيل حقيقة الشر في النفس البشرية.. فكيف يمكن تحقيق التوازن بين الاحتفاظ بتقنيات كتابة السيرة العامة والسماح في الوقت نفسه بالتنوع الواسع في السير الذاتية بناءً على اختلاف أغراض الكتابة وتجارب الكتاب دون التأثير على مصداقيتها ودون تضخيم أو انحياز؟

لم أقرأ إلا أقل القليل مما يكتبه المتخصصون في «أدب السيرة»؛ ليس ذلك تقليلا من شأن ما يكتبونه لكني أظن أن «السيرة» تتنوع بتنوع من يكتبونها. ويعني هذا أنه إن كانت هناك تقنيات معينة لكتابة السيرة فهي تقنيات عامة تصل إلى حد تحصيل الحاصل. وبما أن السير الذاتية تتنوع بتنوع من يكتبونها وتبعًا لاختلاف أغراضهم من كتابتها ولاختلاف تجاربهم فلا بد أن نجد تنوعًا واسعًا منها، لا تحده الخصائص التي أشرتَ إليها.

نلاحظ اهتمامك الكبير بترجمة مؤلفات نعوم تشومسكي إلى العربية؟ أين تكمن أهمية ترجمة أعمال «تشومسكي» وكيف يمكن لترجمة أعماله وغيره من اللسانيين المشهورين إلى اللغة العربية أن تسهم في نشر الدراسة اللغوية العلمية وتوطينها على أسسها الصحيحة، وما أهميتها في إغناء اللغة العربية وتطويرها؟

يُعدّ نعوم تشومسكي الرائد الأول لدراسة اللغة دراسة علمية تقترب من دراسة العلوم الطبيعية، وظل رائدًا لهذا النموذج العلمي من الدراسة طوال أكثر من سبعين عامًا كان خلالها لا يتوقف عن اقتراح بدائل لنظريات ربما كان هو من اقترحها، وقد وجدت أن ترجمة كتبه ومقالاته في اللسانيات مشروعًا مهمًّا لتقديم هذه الدراسة إلى الثقافة العربية، وأملي أن تكون هذه الترجمات رافدًا لدراسة اللسانيات في الجامعات العربية حتى يمكن توطين هذا العلم على أسسه الصحيحة وحتى يكون أساسًا ينطلق منه اللسانيون العرب في إغناء هذه النظريات من خلال دراسة اللغة العربية بأنواعها.

ولم أقتصر، من ناحية أخرى، على ترجمة ما يكتبه تشومسكي؛ إذ ترجمت لآخرين يخالفونه في بعض المنطلقات الأساسية في النظر إلى اللغة وإلى دراستها، فقد ترجمت كتابًا مهمًّا للساني الأمريكي المعروف راي جاكندوف، وترجمت كتاب اللساني الكندي المشهور ستيفن بنكر «الغريزة اللغوية: كيف يُبدع العقل اللغة» وهو كتاب أثار نقاشًا عريضًا منذ نشره لأول مرة عام 1994م، وما يزال.

ما أهمية الإبداع والابتكار في مجال الترجمة بهدف تحسين جودتها وتجاوز المشاكل اللغوية والتحديات الثقافية المتعلقة بترجمة النصوص العلمية والفلسفية إلى اللغة العربية بصورة تعكس الإتقان في الأسلوب وتقديم المعلومة الدقيقة؟

لا تختلف الترجمة عن أي نشاط علمي آخر، والابتكار فيها أن يبذل المترجم غاية الجهد لينجز ترجمة مؤدية أداء أمينًا للأصل الذي يترجمه.. والملاحظ أن الترجمة إلى العربية في العصر الحاضر تعاني من مآخذ كثيرة معروفة، وتتمثل أكبر مشكلة في أن بعض المترجمين يترجمون بلغة عربية وظيفية باهتة ربما تطمس طبيعة النص المترجم وتؤدي إلى ملل القراء، ويمكن لي هنا الاستشهاد بملاحظة الأستاذ الجامعي المغربي الذي يعمل في ترجمة الفلسفة والمنطق الدكتور حمّو النقاري عن «المزالق اللغوية» التي «زلَّتْ فيها أقدام كثرة من العرب المعاصرين حين حاولوا «فهم» نصوص الفكر الغربي الحديث و«نقل» مضامينه إلى اللسان العربي، إذ «نقلوا مضامين هذه النصوص، كما فهموها، إلى عربية هي أقرب إلى لغة التداول العام وأبعد عن تداول أهل النظر والاختصاص...».

ويعني هذا أنه لا بد أن يرقى المترجم بلغة ما يترجمه إلى مستوى النص المترجم من حيث براعة الأسلوب ودقة اللغة وصحة المعلومة.. ويمكن القول إن الترجمة إحدى أهم الوسائل لإغناء اللغة العربية من حيث توطين الأفكار والعلوم. لكن التحدي الأبرز أن تكون الترجمة على مستوى عال من البراعة الأسلوبية والصحة اللغوية التي تغني الذائقة اللغوية العربية ولا تخرج عنها.

... أما تعتقد في السياق ذاته أن «الترجمة» بدأت تعاني من إشكاليات «التقنيات الحديثة» واستخداماتها؟

جربت، حبًّا للاستطلاع، بعض هذه التقنيات ووجدت أن ما تنتجه لا يتوافق مع الأسلوب العربي الذي أتطلع إلى أن تظهر ترجمتي به، وكما يعرف الجميع، فكثيرًا ما تصل الترجمة بهذه التقنيات إلى حد الإضحاك! وأتطلع لأن يكون بإمكاني يومًا مّا الاستعانة بهذه التقنيات التي ربما تكون السرعة ميزتها الوحيدة.

ما أهمية أن توفر الترجمة فرصة للقراءة والتعرُّف على منطقة جديدة للمتلقي العربي؟

الملاحظ أن نسبة كبيرة مما يُقرأ الآن مما يترجم، لا سيما في الرواية وبعض الاهتمامات الجديدة كالفلسفة، وكما قدمت، فهناك مسؤولية كبرى على عاتق المترجم تتمثل في أن يقدِّم للقرّاء العرب أعمالا تغري بقراءتها وتسهم في إغناء الفكر وتضخ دماء جديدة في اللغة العربية من حيث الأساليب والمصطلحات.

في بحث للدكتور بليل عبدالكريم حول إعادة «صياغة المصطلح» وأعني هنا مصطلح «أسلمة المعرفة» اقترح الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن استبداله بـ«التقريب»، اقتداء بالإمام ابن حزم في كتابه «التقريب لعلوم المنطق»، وقد اقترح البعض «تكامُل المعرفة»، والبعض يقترح «وحدة المعرفة».. فكيف نتدارك التحيز الذي يوحي إليه مصطلَحُ «أسلمة» كما يشير له -بعض- المختصين في هذا الجانب؟

كنت كتبت مقالا قبل سنوات بعنوان «المُشكل غير المشكل»؛ وهو يناقش الاهتمام الكبير بقضية المصطلحات فيما يتراجع الوعي بأن المصطلحات نفسها لا يمكن أن تحل مشكل توطين العلوم إلا إذا جاءت في سياق البحوث التي ينجزها باحثون جادُّون.

وهناك مشكلة كبرى تتمثل في المثال الذي أشرتَ إليه هنا. وهي أن الانشغال بمصطلحات مثل مصطلح «الأسلمة» وما يقاربه من مصطلحات إنما يكشف عن نزعة انفصالية عن العالم وعن «تكبُّر» غير مسوَّغ على إنجازات الحضارة الحديثة التي يشارك في صنعها منجزون لا ينتمون إلى عرق واحد أو ثقافة واحدة.

ولعلك تَذكر بعض المصطلحات المؤدلجة التي أخذت حيزًا كبيرًا من الاهتمام في العقود القريبة الماضية مثل «علم الاجتماع الإسلامي» و«علم الاقتصاد الإسلامي» و«الأدب الإسلامي» التي شغلت عقولا عربية كثيرة كان يمكن لها أن تشتغل بما هو أكثر أهمية وأكثر إفادة.

هناك سجال معروف وقضية مرتبطة بمخرجات التعبير والرأي حدثت «معك» انتهت بطريقة تؤكد على أهمية صحة الاختلاف في الآراء.. كيف تقيّم تأثير هذا السجال على المشهد السياسي والثقافي في المملكة العربية السعودية؟ وما الدروس التي يمكن أن يستفيد منها المثقفون والسياسيون في المنطقة؟

مرت المملكة العربية السعودية، مثل غيرها من الدول العربية والإسلامية، خلال العقود الأربعة الماضية بعواصف هائلة من التنازع بين التيارات المختلفة، وهو تنازع حدِّي يقوم على إلغاء الآخر أساسًا. وانتهى ذلك التنازع ليكون «فتنة» عامة كانت ثمرتها المرة حوادث الإرهاب المتنوعة في أكثر تلك الدول، ومنها المملكة.

لكننا من حسن الحظ بدأنا منذ سنوات قليلة، وفي المملكة خاصة، بالتنبه إلى أخطار ذلك التنازع، وهو ما أسهم في عودتنا إلى سويتنا التي كنا عليها قبل تلك العقود. ومما يشهد بذلك انتهاء بعض القضايا الكبرى التي كانت مثارًا للتنازع بين التيارات وكانت موضوعا سهلا للنيل من المملكة، ومن أهمها قيادة المرأة للسيارة والترفيه والسياحة وتمكين المرأة، ومختلف أنواع الانفتاح الثقافي والفني، وغير ذلك.

في كلمة أخيرة، كيف يمكن لنا أن نهتم بالقراءة والاطلاع على الآداب الأخرى والنظر إلى ثقافات الآخر في أن يساعدنا في توسيع آفاقنا وتعزيز فهمنا للعالم من حولنا؟

تعدُّ معرفة لغة أخرى مفتاحًا للثراء المعرفي والفكري وسبيلا للحد من انتقاص الثقافات الأخرى ولغاتها. والواقع أننا لا نعرف لغتنا حق المعرفة إلا إذا أجدنا لغة أخرى. ذلك أن معرفة لغة أخرى تلفت النظر، مما تلفت النظر إليه، إلى الخصائص اللغوية التي يمكن أن تتشارك فيها اللغات، وهو ما يسهم في تخليصنا من نزعة الادعاء بأن لغتنا تفوق اللغات الأخرى. ويمكن أن يكون الاطلاع على آداب اللغات الأخرى بما فيها من أفكار مختلفة وأنواع لغوية مختلفة وأساليب لغوية متنوعة سبيلا لإغناء لغتنا بخصائص كثيرة ليست فيها كما يسهم في إغناء أدبنا بوجهات نظر مختلفة وبطرق جديدة للتعبير ويفتح نوافذ جديدة للنظر إلى أنفسنا وإلى مجتمعاتنا.

2350150_201