No Image
ثقافة

توني موريسون.. اللون الخبيء

26 سبتمبر 2023
بين ضفتين
26 سبتمبر 2023

من قرأ أعمال توني موريسون (1931-2019) لا بدّ أنه لاحظ ذاك التساؤل الكبير الذي تطرحه الكاتبة، حول مكانة ذوي الأصل الإفريقي في المجتمع الأمريكي. تساؤل، يبدو بمثابة لازمة تجتاز أدبها من كتاب إلى آخر، لتشير عبره إلى سلسلة من القضايا الجوهرية التي تعرّض لها السود الأمريكيون عبر تاريخهم الطويل. فالكاتبة الحائزة على جائزة بوليتزر عن روايتها «محبوبة» (عام 1988) ونوبل للآداب (1993)، كانت لا تتوقف عن طرح إشكاليتها الكبيرة: «هل سيُسمح لي، أخيرا، بالكتابة عن السود من دون أن يكون مفروضا عليّ القول إنهم سود، تماما كما يكتب الأبيض عن البِيض»؟

نشرت موريسون خلال مسيرتها عشر روايات وعددا من المسرحيات ومقالات وكتب أطفال، لكنها كتبت قصتين طويلتين (نوفيلا) فقط هما: «غناء» (Récitatif= الغناء الذي يشبه نبرات الصوت المنطوق، كما في الأوبرا)، نُشرت في عام 1983، و»Sweetness» (العذوبة) عام 2015 (في مجلة النيويوركر) تتناول فيها العلاقة بين أمّ ذات بشرة فاتحة وابنتها ذات البشرة السوداء. منشورات كريستيان بورغوا (الفرنسية) أعادت مؤخرا وضمن سلسلة الجيب الخاصة بها (10ـــ 18) نشر النوفيلا الأولى مترجمة (106 صفحات) مع دراسة، كخاتمة، لزادي سميث.

تروي «غناء» قصة امرأتين، تويلا وروبرتا، التقيتا في دار للأيتام وهما في سنّ الثامنة، لنعود ونجدهما في خمس فترات متلاحقة من حياتهما، وفق لقاءات كانت تحدث صدفة. تبدأ موريسون المشهد على الفور: «إن سحبك من السرير في الصباح الباكر هو شيء، ولكن أن تكون عالقًا في مكان غريب مع فتاة من عِرق مختلف تمامًا هو شيء آخر». نفهم إذًا أن واحدة من الفتاتين بيضاء والثانية سوداء. تتشكل لعبة الكاتبة بأكملها، في سردها هنا، بدفع القارئ إلى طرح سؤال حول لون بشرة البطلين، من منهما البيضاء ومن هي السوداء. بيد أن الكاتبة تلعب على نسق من العلامات، وهو التوصيف الذي -بناءً على علامات معينة نربطها بعرق أو آخر- يبدو أنه يعطينا الإجابة. ولكن بمجرد أن نعتقد أننا عثرنا عليه، تُخرج موريسون من «قبعتها» وصفًا جديدًا يخلط بين هذه الرموز ليعيدنا، إلى البداية، إلى الشك.

ثمة أسئلة أخرى قد تبدو أهم لفهم الشخصيتين: متى وكيف تعلمت روبرتا القراءة؟ كيف وجدت هذه الطفلة المنبوذة، التي رميت على قارعة الطريق، نفسها اليوم، في سيارة ليموزين مع سائق؟ ولكن بغض النظر عن مدى صعوبة محاولتنا في إيجاد جواب، يظل السؤال المزعج هو نفسه: من هي الفتاة البيضاء ومن هي السوداء؟ هل نحن جميعًا أسرى ثقافة تشدد على الاختلافات في لون البشرة لدرجة أننا لا نستطيع رؤية العالم من دون تطبيق إطار القراءة هذا عليه؟ هذا ما يبدو لنا عبر صفحات الكتاب.

ومع ذلك، ربما تقترح موريسون إجابة: «نتصرف الآن مثل أختين انفصلتا عن بعضهما لفترة طويلة جدًا. هذه الأشهر الأربعة القصيرة لم تكن شيئًا في الماضي. ربما كان الأمر عينه: مجرد التواجد هناك معًا. فتاتان صغيرتان تعرفان ما لم يعرفه أي شخص آخر في العالم: فكيف لا تطرحان الأسئلة». عندما تكون توايلا وروبرتا راضيتين عن الحاضر، وعندما لا تشككان في «اختلافهما» -من دون إنكار ذلك- فإنهما تكونان سعيدتين. لكن لسوء الحظ، غالبا ما يضعهما المجتمع في مواقف لا يكون فيها هذا الحل ممكنا. لكن إذا وضعت موريسون القارئ في هذا الخلاف (والاختلاف)، وإذا أجبرته على أن يسأل نفسه سؤالا يود أن يتجاهله، فإنها بذلك تدعو إلى التشكيك في ممثلتي الدراما والذاكرة اللتين تحتفظان بها عن ماضيهما. في الواقع، شهدت تويلا وروبرتا معا صدمة مؤلمة، لكنهما لا تتذكرانها بنفس الطريقة؛ والأسوأ من ذلك أنهما متعارضتان تمامًا. إذن، من يقول الحقيقة؟ أو، إذا كانت كلاهما مقتنعين بدقة ذاكرتهما، فمن منهما أعادت بناء الحدث؟

تشير زادي سميث بحق في خاتمتها (الرائعة فعلا)، إلى أنه عندما يتعلق الأمر بـ«العرق»، فإن الذاكرة ليست مفهومًا يسهل التعامل معه. في الواقع، إلى جانب ذاكرة الحقائق التي قد تكون إشكالية في بعض الأحيان، هناك تجذير مزدوج مرتبط بالاختلاف: من ناحية، صدمة العبودية، ومن ناحية أخرى، الثقافة الخاصة بالمجتمع الأمريكي الإفريقي الذي عملت موريسون على تمثيله طوال حياتها. قد يبدو هذان الجذران غير متوافقين في البداية. لقد حاربنا العبودية من خلال القول إن الاختلافات في لون البشرة ليست كبيرة، كما أننا ندافع عن خصوصية الثقافة التي يكون عاملها المحدد هو لون البشرة. على مرّ عملها بأسره، حاولت موريسون أن تحل هذا التناقض الواضح من خلال الافتراض بأن هذا التصنيف المصطنع الذي فُرض لأسباب خاطئة (الذوق من أجل الربح، والسادية، واللامبالاة، وما إلى ذلك) أثبت أيضًا أنه مصدر قوة لأولئك الذين كانوا ضحاياه والذين استمدوا القوة منه. بناء ثقافة ذات صدى عالمي. ليس من قبيل الصدفة أنه في بداية القصة، في المرة الأولى التي ترى فيها تويلا وروبرتا بعضهما البعض من جديد، تذهب هذه الأخيرة إلى حفل موسيقي لجيمي هندريكس، الفنان الرمزي للتقاطع العنصري الذي حدث في ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة. يصنع هندريكس موسيقى الروك، وهي موسيقى البيض، ولكن بطريقة فريدة من نوعها، راسخة بقوة في الثقافة الأمريكية الإفريقية، ويحتفل به كل من السود والبيض لاختلافه. مع مرور الوقت، يبدو أن المؤلف يخبرنا، عندما تمحى الرموز العنصرية من المجتمع كما هي في «غناء»، ستبقى هذه الثقافة. وهنا المهم. من ناحية أخرى، يجدر بنا أن نتوقف عند مقتطف من خطاب ألقته موريسون عام 1995 في جامعة هوارد «العنصرية والفاشية» والذي تقتبس زادي سميث منه في خاتمتها، موضحة إنه «ملخص مفيد للغاية، يجب قطعه والاحتفاظ به للرجوع إليه في المستقبل؛ لأننا إذا كنا نأمل في تفكيك هياكل القمع، فمن المؤكد أنه سيساعد على فحص الطريقة التي يتم بناؤها بها».

باختصار، تكشف «غناء» عن أعمق إخفاقاتنا وأحكامنا المسبقة عندما يتعلق الأمر بـ«العرق»، لذلك هي قطعة كتابية أساسية للغاية في مسيرة موريسون، إذ أن جميع الموضوعات الرئيسية التي دار عملها حولها موجودة هنا: العنصرية، والهوية، والعنف، ومكانة المرأة في التاريخ وفي المجتمع، وفخاخ الذاكرة ونوباتها... حفنة من الصفحات المؤثرة، الشفافة بقدر ما هي مذهلة لتقدم لنا جوهر أحد أكثر الأصوات التي لا تنسى في الأدب الأمريكي المعاصر.