No Image
ثقافة

تحولات توفيق الحكيم في عصفور الشرق

18 أبريل 2024
18 أبريل 2024

تلقي الأدب والفن للاستمتاع وتمضية الوقت، وتفريغ الطاقات العاطفية أمر مهم، ولعل ذلك يتعلق بشكل عام بالمراحل العمرية الأولى، أما ما يقوده العمل الإبداعي من وعي وتأمل، فلربما يكمن فترة عقدين في اللاوعي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن التلقي الرومانسي يختلف عن التلقي الواقعي، كلنا حسب نضجنا الثقافي والاجتماعي والنفسي.

من أكثر الموضوعات الملحة في حياتنا، على مدار العمر، موضوع هو-هي. ولعل هذا الموضوع يحوز على أكبر عدد من الصفحات في عالم الأدب.

ومن الطبيعي في حالة الأديب والأديبة أن يتناول كل منهما الأمور من منظوره، حيث سيظل لكل منهما رأيه الذي اكتسبه، من واقع حياته، جنسه ومكانه وزمانه.

في حالة الأديب، يحظى موضوع هو-هي باهتمام كبير من سنوات كتابته المبكرة، حيث سيكون، رغم الاهتمام بكليهما، مركزا على رؤيته لـ(هي).

و«هي»، هنا كل ما يتعلق بمراحلها العمرية، وإن كان الأديب بشكل عام سيركز على عمر معين يمتد من البلوغ إلى منتصف العمر (افتراض).

إذن كيف يرى الإنسان الأمور على مدار سنوات العمر؟ وكيف يرى الإنسان الكاتب الأديب الواحد لأمور وقضايا على مدار عمره؟

الأديب إنسان، يمر بتحولات أيضا، لكنه يختلف عن الآخرين، أنه يوثق تحولاته، وأفكاره تجاه ما يراه؛ فيمكن مثلا تتبع أحد الكتاب الكبار تجاه قضية معينة، كيف بدأ وكيف انتهى، حيث سنرى أن هناك تغيرا وتطورا، وليس هذا غريبا، لأنه هذا هو الإنسان في الزمان والمكان.

كنت ابن 19 عاما في عام 1986، حينما شاهدت فيلم «عصفور الشرق»، من إخراج يوسف فرنسيس، الذي اعتمد بشكل خاص على كتابي «يوميات نائب في الأرياف 1937» و«عصفور من الشرق 1938».

ما لفت نظري وقتها، وجود الكاتب الكبير توفيق الحكيم في الفيلم، حيث جرى بينه وبين نور الشريف، الذي أدى دور شخصية محسن في عصفور من الشرق، ووكيل النيابة في يوميات نائب في الأرياف.

قامت الرؤية الإخراجية للفيلم على محاكاة أدبية، فتتكرر تجربة قصتي توفيق الحكيم اللتين حدثتا في عشرينيات القرن العشرين، مع الشاب الذي أدى دوره نور الشريف، الذي يزور باريس في الثمانينيات. يمر بتجربة عاطفية مع فتاة شباك السينما، ثم ينفصلان.

وسواء تم تمثيل الروايتين، أو تم عمل محاكاة لما كان، فنحن في موضوع هو-هي، وكيف رأى توفيق الحكيم المرأة من خلال سوزي بائعة تذاكر مسرح أوديون، من خلال «عصفور من الشرق»، فإن ما يجعل للفيلم قيمة فكرية، هو تعليقات الكاتب توفيق الحكيم الذي جيء به ليشارك الزمن الماضي الذي عاشه وعبّر عنه.

ظهرت «عصفور من الشرق»، لتوفيق الحكيم عام 1938. ترجمت ونشرت بالفرنسية عام 1946، أي أن ما بين الرواية والفيلم 50 عاما، وما بين الحدثين حقيقية هو 60 عاما، كون القصة حدثت في باريس أيام دراسة توفيق الحكيم فيها.

سياق السرد على مستوى الشكل في الروايتين المذكورتين، جاء في سياق بداية الكاتب بروايات «عودة الروح عام 1933، ثم كما قلنا «يوميات نائب في الأرياف1937» و«عصفور من الشرق 1938» و«أشعب 1938» و«راقصة المعبد 1939» و«حمار الحكيم 1940» و«الرباط المقدس 1944». في حين يمكن إضافة ما كتبه في السيرة، «زهرة العمر 1943»، و«سجن العمر 1964».

أما سياق السرد على مستوى المضمون، مضافا إلى ما ذكر مجمل مسرحيات ومقالات توفيق الحكيم، فإن المضمون مرّ في عدة مراحل، يمكن تتبعها، ولعل هناك من تناول ذلك بالبحث والدراسة.

وهنا، يمكن عمل مقارنة بين الحكيم في العشرينيات والثمانينيات، بفاصل 60 عاما، ولعل ذلك يقودنا إلى كيفية التعامل الفكري، ما بين النظرة الرومانسية الحالمة، والنظرة الواقعية التي تعتمد على نضوج فهم سيكولوجية المرأة.

في العشرينيات، حين افترق محسن عن سوزي، في عصفور من الشرق، كتب لها أكثر من مرة، ومما كتب: «لست نادما على ذلك القلب الذي قدمه لك باحترام فألقيت به في المدفأة...كان قلبي تفعلين به ما تشائين..». كان رومانسي النزعة رغم أنه مكتويّ بما فعلته به. وهذا ما كان من تحليل للعلاقة في العشرينيات. كان الحكيم في شبابه.

في الفيلم الدراميّ بقليل من التوثيقية (دوكيو دراما)، حيث استضاف المخرج يوسف فرنسيس في الفيلم، بل وذهب مع طاقمه إلى باريس، وجدنا توفيق الحكيم يحدث الفنان نور الشريف، الذي قام بدور محسن، أو (ما قاربه دراميا) عن المرأة، قائلا إن المرأة تفضّل الرجل غير الحالم ويصفه بـ«شيش كباب»، أي المطلوب أن يكون «قلب الرجل مشوي بدون حنان».

وهنا نجده يقول لنور الشريف: «حنت؟ لا ما حنت» تعليقا منه على رسالة محسن لها.

وهو، توفيق الحكيم، رغم أنه يصف المرأة بـ«مخلوق متعب»، إلا أنه يخلص إلى الموافقة على عدم قدرة الاستغناء عن المرأة، «تعمل إيه بالحب بقى». وهو في ظل وصفه لها بأنها «مش مستريحة ع طول» ينصح بإعطاء فرصة «اعط فرصة جايز تلاقيها تغيرت».

وأخيرا، بالرغم من الوعي الواقعي لمضمون «فيلم عصفور الشرق»، خاصة بما تحدث به توفيق الحكيم من عمق نفسي واجتماعي يتعلق بالمرأة، إلا أنني في ذلك الوقت من أواخر الثمانينيات، آثرت التلقي الرومانسي، وهو نفسه ما كان يؤثر على شخصية محسن العاشق في رواية «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم. لكن مع تقدم الزمان وبياض الشعر، فإننا نتذكر ما كان في اللاوعي، فنعيد المشاهدة بفضل منصة «يوتيوب»، ونشعر أننا نكتشف المعنى أول مرة. فما كانه توفيق الحكيم وشخصية العاشق في روايته (ولعله هو نفسه محسن) لم يعد كذلك والزمان يتقدم به.

سيسمعنا الشباب، ولكن في النهاية سيستمعون لأنفسهم، لكنهم سيعودون إلى كلماتنا، وكلمات آخرين، وهذا هو تحدي الحضارة والوعي، الذي يعني أخذ العبر قبل فوات الأوان في الحب والزواج والخيارات الاجتماعية والسياسية.

كان عمر المخرج والفنان والكاتب يوسف فرنسيس عام 1986 سنة إخراج الفيلم 52 عاما، وهو عمر تأمل وحكمة، لعله أراد إيصال فكرة ما من خلال توفيق الحكيم. الفيلم من نور الشريف وسعاد حسني، وإليزابيث جارد، وأميدو، ومحمد خيري.