No Image
ثقافة

تحولات الثقافة في مصر من طه حسين إلى صبحي موسى

03 نوفمبر 2023
03 نوفمبر 2023

حينما أصدر عميد الأدب العربي كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» عام 1937 لم يدرك -على الأرجح- أنه يضع دستورا للثقافة المصرية والعربية. بدا كتابه كأنه لوحة «زِنك» في مطبعة، يمكنها إمدادنا بمئات النسخ. صمدت أفكاره مع الزمن، وتناقلتها الأجيال وتحاورت معها، جيلا بعد جيل، حتى صارت المحاورات كالجبل العالي، وإن قمت بعمل بحثٍ بسيطٍ على «جوجل» عن هذا الكتاب ستجد أن النتائج المتعلقة به تقترب من مليون نتيجة.

باحثون ومتخصصون ومستشرقون ومثقفون وقرَّاء عاديون تقاطعوا مع كتاب العميد وعلَّقوا عليه، أخذوا منه وأضافوا إليه، لقد استُهلك بشكل لا يُصدق ومع هذا فإنه يبدو زاهيا وجديدا كأنه صدر اليوم، أو كأن طه حسين صاغه من مادة لا تنضب. كان العميد يرى أن المصريين أقرب إلى الغرب من ناحية العقل، أي أن المصري يعيش جغرافيا في مكان وينتمي بأفكاره إلى منطقة جغرافية أخرى، كما أن أغلب أفكار العميد في هذا الكتاب تتعلق بإصلاح العملية التعليمية، وقد منحنا أمثلة على قوة العقل المصري والعربي تاريخيا، لكنه آمن بضرورة أن يحصل على نظام تعليمي يتيح له مزيدا من القوة والتحرر والانطلاق.

ومن فترة إلى أخرى يصدر كتاب يتقاطع مع أفكار العميد، بعضها يمضي في صمت لأنه لم يضف جديدا إلى الأفكار التي صاغها طه حسين في ثلاثينيات القرن الماضي، لكنَّ كتابَ صبحي موسى «تحولات الثقافة في مصر» يستحق وقفة بما تضمَّنه من أفكار جديدة تخصه، وأيضا بسرده التاريخي الشيِّق لتحولات الثقافة في مصر على مدار سنوات طويلة. تعامل صبحي موسى مع الثقافة كما تعامل معها طه حسين، فهي ليست مجرد كتب أو مسرح أو سينما إنما يُقصَد بها المعارف بمعناها العام، وبالتالي لا يمكن مناقشة أوضاعها ولا ما آلت إليه بدون النظر إلى عملية التعليم، وكذلك الإعلام، والأوقاف، والأزهر والكنيسة، فكل هذه الجهات هي مصابيح الوعي، يقول صبحي: «الثقافة مفهوم متشعِّب، ورد فيها أكثر من مائة وستين تعريفا، لكننا في المجمل، من خلال رؤية علماء الاجتماع لها، يمكننا أن نعتبرها العقل الحاكم للمجتمع، بدءا من العادات والتقاليد الموروثة وصولا إلى الأحلام والأمنيات والتطلعات الخاصة بالمستقبل، وبينهما تأتي العديد من المنظومات المعرفية التي ترتِّب حياة البشر، ويصبح لزاما علينا حين نتحدث عن الثقافة من منظور اجتماعي أن ندقق في أبعادها وتراكيبها وطبقاتها المتعددة، كي نتمكن من تنميتها وتطويرها بشكل متناغم ومستمر».

يمنحنا صبحي لمحات عن تطور المؤسسات وعلاقاتها ببعضها البعض، فمثلا في الخمسينيات نشأ ما عُرف بـ«وزارة الثقافة والإرشاد القومي» في مصر ولم يكن التعليم ضمن خطتها وإنما الإعلام، وقد سُميت وزارة الإعلام بـ«الإرشاد الوطني» لكنها واجهت انتقادات كبيرة بسبب مسماها، إذ يشير بوضوح إلى أن الهدف منه هو إرشاد الناس إلى ما هو وطني أو غير وطني، وهكذا ظلت الثقافة في عهد عبد الناصر، كما يلفت صبحي، جزءا من الإرشاد القومي فمن ليس مع النظام فهو ضده ومن لم يحارب بسيفه فلا ينبغي أن يأكل من خبزه، لكن كل شيء تغيَّر في عهد السادات الذي رأى أن مقاليد اللعبة السياسية في يد الغرب وأن مصر لم تجنِ من السير في ركاب الكتلة الشرقية إلا معاداة محيطها الطبيعي وهو العقل الغربي، وهي نفس رؤية طه حسين بالمناسبة، ومن ثم اتجه إلى الغرب وبدأ تغييرا ثقافيا شاملا، بالتنكر للشيوعية والانفتاح الاقتصادي، ثم فتح الباب للإسلاميين فحظوا بالأمان، وراحوا ينقلون ثقافتهم الراديكالية إلى كل ربوع مصر.

يهتم صبحي موسى بالتأريخ، ولذلك فإن الكتاب ليس من نوعية تلك الكتب الصحفية الخفيفة، التي لا تهتم بالإحالة إلى مراجع، وإنما يطعِّم كتابه بمعلومات ومقولات تمنح القارئ صورة متعددة الزوايا، والكتاب يهتم بالتوثيق، توثيق تواريخ تحولات المؤسسات المختلفة، والمنابع الفكرية للقائمين عليها، ولذلك أعتبره مرجعا مهما للمعلومات يمكن العودة إليه في كل ما يخص تحولات الثقافة المصرية، في فترة ما بعد يوليو وإلى الآن.

ما دفع صبحي إلى المناداة بالتفكير في خطة ثقافية جديدة، بل ووضْعِ عناصر يمكن للقائمين على الثقافة أن يهتدوا بها، أن هناك تغيرات عالمية كبيرة جدا، فإذا نظرنا إلى محيطنا العربي فقط سنرى أن كل شيء تغير، وأن الثقل الثقافي انتقل بالإضافة إلى القاهرة إلى عواصم أخرى. لكن صبحي ينبِّه إلى أن الخطة لا ينبغي أن تشبه خطة ثروة عكاشة، في الستينيات، إذ جعل الوعي الثقافي العام يدور في فلك الدولة الجديدة ورؤيتها للحياة والعالم من حولها، كما ينبه إلى ضرورة ألا تشبه كذلك خطة فاروق حسني في التسعينيات، لأنها نهضت على ثقافة الاستعراض، وكانت في حقيقتها لا تهدف إلا لجمع المثقفين من الشارع العام، ووضعهم في «حظيرة الدولة»، لكنه يعود بعد ذلك لينصح بالأخذ بما لديهما من إيجابيات والانصراف عن السلبيات.

ويؤكد صبحي أن «الخطة صارت ملحَّة بعد التغييرات الكبرى التي ضربت الأرض بدءا من ثورة اتصالات جعلتها قرية صغيرة تداخلت فيها كل العوالم، وسقطت أمامها الحدود والموانع، كما سقط ما عُرف بالسرديات الكبرى، فضلا عن سقوط أساطير كانت تفسِّر نشأة الكون. وتحوَّل الإنسان من كونه مركزا للوجود في هذه الأساطير، إلى مجرد كائن عالق في الزمان والمكان، لا يعرف بداية للوجود ولا نهاية له، يسعى طيلة الوقت للكشف عن آليات عمل الواقع المحيط به لتطويره أو الخلاص من شروره، والوصول إلى درجة من الرفاهية تسمح بخلق الجنة التي يحلم بها على الأرض».

ويضيف صبحي أن أي خطة ثقافية يجب أن تكون شاملة، أي أنها تُعنى بالمجتمع ككل، وليس بفئة أو طائفة أو جماعة محددة، وأن تكون أولوياتها بالدرجة الأولى هي البشر وليس الحجر، فترك البشر على حالهم لسنوات طويلة يصيب الوعي والفكر في أي مجتمع بالجمود والثبات، وسيطرة الثقافة الأصولية والتقليدية عليهم يعرضهم لأخطار كبرى تتهدد المجتمع ككل، بدءا من الطائفية وصولا إلى تكفير المجتمع، وهي أمراض أشبه بخلل النظام الدفاعي في الجسم.

ويقول إنه يجب أن تُشكَّل مجموعة ثقافية من الوزارات المعنية بصياغة عقل وفكر ووعي المجتمع، نظرا لما تشتمل عليه من إمكانات ومؤسسات قادرة على تحقيق الخطة، فضلا عن أن بعضها له خطابه الثقافي المؤثر والمشكِّل لوعي الجماهير التابعة له، وفي مقدمتها وزارات الثقافة والإعلام والتربية والتعليم والتعليم العالي والأوقاف، بالإضافة إلى كل من مؤسستي الأزهر والكنيسة، ويجب تشكيل مجلس متخصص يكون بمثابة العقل المفكر لهذه المجموعة، حيث يمكنه وضع الخطط والأهداف ومتابعة تنفيذها على أرض الواقع، ثم يعاود التقييم والتعديل، وهو يرى أنه يمكن اختيار المجلس الأعلى للثقافة، ليقوم بهذه المهمة، لافتا إلى أنه نشأ عام 1980 بديلا عن «المجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون»، لأجل هذا الغرض، لكنه استسلم لنفس اختصاصات المجلس القديم، وهي «رعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية»، عبر عقد مجموعة من المؤتمرات وإعطاء المنح والجوائز وغيرها، لذلك لم يأت بما يتوافق مع المأمول من مسماه الكبير، ومع الوقت تحول إلى إحدى البوابات الكبرى للحظيرة الثقافية، ويقترح صبحي أن يكون المجلس الأعلى للثقافة في صيغته الجديدة تابعا لرئيس الوزراء وبرئاسته، كي يأخذ قوته من قوته، وكي يتمكن من العمل بمرونة ويسر مع وزارات المجموعة الثقافية، ويكون رئيسه نائبا لرئيس الوزراء للشؤون الثقافية، ويفضل أن يكون وزير الثقافة أو الإعلام.

ومن ضمن ما يقترحه صبحي كذلك ضرورة إصدار تشريع يقضي بتخصيص 1% من أرباح المؤسسات الخاصة لصالح الأنشطة الثقافية في المجتمع، بحيث يلتزم القطاع الخاص بالمشاركة في التنمية الثقافية، فضلا عن تحويل تبرعاته من الاتجاهات الدينية إلى الاتجاهات الثقافية والفنية الحديثة، وهو ما ينقل ذهنية العاملين في المؤسسة من الأفكار التقليدية والأصولية إلى الأفكار المدنية الحديثة.

وكذلك يقترح تعديل قانون الهيئة العامة لقصور الثقافة بحيث تتعامل مواقعها مع الجمهور بوصفها مراكز ثقافية أهلية، تقوم على دعم كل من لديه مشروع أو نشاط ثقافي جيد، وينوه إلى ضرورة أن تتخلى قصور الثقافة عن دورها كمقرات لممارسة الأنشطة الثقافية، وأن تكون مراكز للتنسيق للعمليات الثقافية في الحيز الجغرافي التابع لها، وأن تتمم كل الأنشطة التي تشرف عليها وسط الجمهور، وأن تتعاون إدارات الحكم المحلي معها لتوفير التأمين اللازم لأدائها عملها، وأن تلعب مؤسسات المجتمع المدني دورا فاعلا في الواقع الثقافي والاجتماعي في المجتمع المصري، وألا يكون حضورها لافتات كبيرة وعلى رأسها أسماء عريضة بدون فاعلية، لأن القانون لم يكن يتيح لها العمل إلا من خلال المؤسسات الحكومية، وهو ما فرغها من تكوينها الحقيقي، وأجهض رسالتها، ولم يشعر المجتمع بأهمية وجودها وضرورته، كما يؤكد على أهمية استخدام الإعلام في إعادة صياغة العقل المصري من جديد.

هذه هي أبرز الأفكار في كتاب صبحي موسى مع التأكيد على أن ذلك العرض القصير لا يمكنه الإلمام بالجانب التاريخي للكتاب وقد زاد فيه المؤلف وبرع، لكن كان من الأفضل إطلاع القراء هنا على أفكاره للمستقبل، وهي أفكار ضد الجمود، خاصة وقد تحولت الثقافة في مجملها بالمؤسسات الرسمية إلى ثقافة كرنفالات، لا تعرف سوى دعوة الأسماء اللامعة من البلدان المختلفة، ليلتقوا في مؤتمرات المسامرة. كتاب صبحي موسى هو فرع جميل من نهر العملاق طه حسين، لأنه أضاف إليه ما جرى من تحولات في الثقافة المصرية وكذلك العربية في فترة زمنية لاحقة، ولم يجعل كلامه مجرد أفكار بدون تطبيق عملي، فوضع بنودا مهمة يمكن البناء عليها لإصلاح أوضاع الثقافة، وكذلك لأنه اهتم بإشباع نهمنا إلى المعلومات الموثقة، والحكايات التاريخية التي كاد أن يطمرها النسيان، ولذلك فإن مثل هذه الكتب هي ضميرنا الحي الذي سيبقى دائما على أرفف المكتبات.