«برلتراس» لنصر سامي.. صرخة في وجه التوحش واللاإنسانية
تونس «العُمانية»: تمثل رواية «برلتراس» للكاتب التونسي نصر سامي مرثيّة من مراثي الإنسانية، إذ نتعرّف من خلالها على الشرّ الذّي يمحو تدريجيا الأثر الذي تركته الإنسانية منذ بدايتها. وتصوّر الرواية الصادرة عن دار مسكيلياني هذا الأفول، وتمعن في متابعته وتسجيله وتوثيقه، وتشهد على الفناء المظلم الذي تغرق فيه حياتنا اليوم. ومن خلال قصص كثيرة تحدث في مكان غريب اسمه «برلتراس»، نشهد تخلّي البشر عن بشريتهم وانسحاقهم أمام آلة جهنّمية غادرة قوية مرعبة دموية لا إنسانية رهيبة، هم داخلها مجرّد قطع لحم في آلة كبيرة من الصّدأ، تفرمهم بلا هوادة! وتذكّر الرواية التي تقع في 250 صفحة بكتّاب مثل جورج أورويل وكافكا، لكنها تتحرّك ضمن المشترك الإنساني القيمي المهدّد ذاته الذي تحركت فيه المرويات الكبرى!. يقدم نصر سامي في هذه الرواية نصًّا سرديًّا يتسم بالتماسك والتأثير والقوّة، فبعد توظيفه لإحدى المرويات التاريخية في روايته الأولى «الآيات الأخرى»، واصل هذا النهج بتوظيف حكايات محلية وعالمية في روايته الثانية الفائزة بجائزة الشارقة «حكايات جابر الراعي»، وفي روايته الثالثة الفائزة بجائزة كتارا «الطائر البشري». ولم تخلُ روايته الرابعة «العطّار» من مرويات تخصّ الشّكل الشعبي لافتتاح الفصول وبعض الطرائق الفنية التي يصرّف بها الراوي الشعبي قصصه، وها هو هنا في «برلتراس» يواصل تمسّكه بسرد ما يسمّيه «المرويّات الكبرى»، باشتغاله العميق والغريب والجريء وغير المسبوق على نصّ شفوي قديم يضمّ أقدم كتاب عربي للشعر (المفضليات). ويهدي الكاتب روايته لمحققَي «المفضليات» أحمد محمد شاكر وعبدالسلام محمد هارون؛ فهو يوثّق بطريقة سردية لافتة قصة جمع هذا المصنّف القديم وتحقيقه، ولعلّ ما يلفت في هذه الرّواية هو تلك الحساسيّة الفاتنة التّي قُدّمت بها القصائد، وتلك العروض القصيرة المختزلة لمحتواها، وذلك التفاعل العميق في تدبّرها وتوثيقها. وعلى امتداد الرواية يتمسك الأبطال بتسجيل القصائد، لأنّ ذلك هو الشيء الوحيد الذي يثبت أنهم ما يزالون بشريين بطريقة ما. وتتفاعل الرواية لترى الواقع ليس كما يبدو بل كما هو في الحقيقة، حيث الإنسانية شيء غابر قديم لا صدى له في الحاضر، وحيث الحضارة تهترئ في مواجهة مسوخ لا حضارية يشكّل التوحّش شكلها الخارجي.
ويقدّم الراوي الحالة الرّاهنة لـ «لإنسان» في دولة الغولاك، المحاط بالأسوار اللامرئية السالبة للإنسانيّ والحيويّ. ويتحرّك في مساحات مظلمة قاسية بأقصى ما تستطيع أرواح أبطاله قبل أن ينطفئوا، يحاذيهم، يحبّهم، لكنّه يشهد انهيارهم المدوّي وتخليهم المرعب وسقوطهم الذي يدكّ العظام. وتجسد «برلتراس» صرخة مدوّية في وجه التوحّش والبؤس والعولمة وأساليب الامتهان والتبخيس من شأن الكائن، ورغم كلّ ذلك ينتصر نصر سامي للتراث اللامادي في وجه مظاهر الحضارة المادية، واستطاع أن يأخذ وعي القارئ بعيدًا عن راهنه المطبّع مع الاستلاب والوحشية إلى عالم آدمي، تكون فيه «برلتراس» وطنًا تشرق فيه الشمس الطبيعيّة.
