No Image
ثقافة

اليوم الذي قضيته في اليمن

20 مارس 2024
20 مارس 2024

كان الثالث عشر من أكتوبر من العام الماضي هو يوم مميز على الرغم من كل الأيام السوداء الأخرى، كنت متثاقلا للاستيقاظ في صباح تلك الجمعة، بعد سهرة خميس صاخب مع الأصدقاء في أحد أماكن السهر المطلة على بحر العرب من علو قمة شاهقة من قمم مدينة صلالة الخضراء، كانت تلك الفترة من العام تدعى بموسم الصرب، وهي التي تلحق أفول الخريف وانقطاع الرذاذ وانقشاع السحب الكثيفة مع ظهور خجول للشمس بين الفينة والأخرى، حيث تكتسي السهول بالأزهار البرية المعروفة بألوانها الصفراء والحمراء والبنفسجية والبيضاء. كانت شقتي مطلة على مزرعة نارجيل شاسعة، وكانت أشجارها الشامخة تغتسل بأشعة الشمس الدافئة وأنا أسترق النظر إليها من الطابق الرابع من سريري المقابل للباب الزجاجي المكشوف على رؤوس أشجار النارجيل المشعة بالاخضرار.

يا له من صباح جميل

قررت فجأة، بعد أن تذكرت بأنني عائد إلى مسقط بعد أسبوع من الآن، أن أنهض وأنتعل حذائي وأذهب إلى اليمن، هكذا فجأة، التي لطالما نويت زيارتها منذ قدومي إلى صلالة قبيل الشتاء المنصرم، وما أخّرني عن زيارتها هو خوفي من المشاكل الأمنية الناتجة عن الحرب وضياع النظام، وما سمعته من قصص ذاع صيتها عن تعرّض بعض العمانيين لإطلاق نار وقتل ووقوع آخر رهينة في أيدي العصابات، لكنني بعد أن استعلمت من اليمنيين الكثر المقيمين في عُمان، ومن صديقي سالم المعشني علمت أن المنطقة الحدودية آمنة نوعا ما لشخص مغامر مثلي، حيث اعتاد الشباب الظفاريون قضاء إجازة نهاية الأسبوع في محافظة المهرة للاستمتاع باللانظام الشائع هناك، حيث يمكنهم ممارسة الصيد واقتناء الأسلحة وتناول القات في الجلسات الطربية المعروفة، وهكذا أخرجت جواز سفري وقدت سيارتي التيدا متجها جنوبا غربا نحو اليمن السعيد، عبرت ريسوت بجبالها الشاهقة ومررت على سفينتها العالقة أسفل الجرف، ثم مضيت حتى وصلت أرض المغسيل بشواطئها الهائجة وأفقها المكسو بالضباب والظلام في أعماق المحيط المتلاطم، ثم صعدت منها في طريق جبلي متعرج نحو أعالي جبل القمر ثاني أعلى قمة في عُمان، حيث تقطنه قبائل مهرية وجبالية منتشرة في ثلاث ولايات هي رخيوت ثم ضلكوت ثم صرفيت، كنت أستمتع بجمال المناظر الخلابة وأنا أقود سيارتي بروية مصورا الكثير من تلك المناظر التي تطل بك على طريق مكسو ضفتاه بالعشب ثم أسفل منه منحدر وأسفل المنحدر غيوم متفرقة أسفلها شواطئ لا تكاد أمواجها تُرى لبعدها الساحق عن موقعك.

في ضلكوت استوقفني رجل يحمل معه كيسا عملاقا وثقيلا، فتوقفت، أخبرني بأنه بنجالي وأنه يريد توصيلة إلى المزرعة التي يعمل ويقيم فيها في صرفيت، ظننت أن صرفيت قريبة فأخذته معي وهو فرح لندرة السيارات الذاهبة إلى صرفيت في هذا اليوم البهيج، سألته ما الذي جاء به إلى ضلكوت، فأخبرني أنه جاء لأجل اقتناء بعض الاحتياجات اللازمة له وللمزرعة التي يعمل فيها، ثم سألني عن وجهتي فأخبرته اليمن، ولم تبد عليه أي علامات استغراب بل أخذ يتحسس ذقنه براحة يده، قال لي وبشرته داكنة جدا كبشرة الجباليين: "كثير نفر عماني يروح يمن مشان زواج، أنت روح زواج؟" قلت له: لا، قال: "أنت روح أكل قات"، قلت: لا. فصمت وهو يبتسم وكأنه توصل إلى حقيقة ما لم يشأ إخباري بها، كانت صرفيت بعيدة جدا والطريق إليها هبوطا من قمم جبل القمر، حيث جداول الماء الغزيرة تسيل على جوانب الشارع، وقد ترى أناسا يستحمون أو جمالا وحيوانات ترتوي من تلك الجداول والشلالات، وصلنا أخيرا إلى المزرعة وكانت بهية خضراء بأنواع كثيرة من الفواكه والحيوانات وقريبة أيضا من الشارع إذ تقع على منحدر بين البحر والجبل، ودّعته مسرعا بعد أن حاول أن يدفع لي أجرة الطريق، وأخبرني أن الحدود بعد 10 كليومترات فقط، وفعلا كانت صرفيت آخر قرية عمانية فيها أسواق ومحطة بنزين ومسجد ومطعم وأماكن للاستراحة، عبرت الحدود العمانية وهي بذات تصميم وهندسة باقي مباني الشرطة الحدودية في عُمان، وعندما خرجت إلى المركز الحدودي اليمني لم ألاحظ أي تغيير كبير، سوى أن مبناهم أكثر تواضعا فهو عبارة عن قاعة كبيرة أمامها نافذتان يقعد خلف أحدها رجل كان يدخن سيجارة في الخارج عندما ترجلت من سيارتي مستفسرا عن الإجراءات، أخذ مني الجواز ورسوم الدخول وأعطاني ورقة، قال لي عندما تعود غدا اعطنِ إياها، وهكذا مضيت بسيارتي حتى مكان التفتيش المظلل، وأشار عسكري مدجج بالأسلحة بأن أذهب وذهبت، وعندما وصلت إلى المخرج جاءني شاب يحمل سلاحا رشاشا كبيرا مخيفا إلا أنه كان مبتسما، سألني عن ورقة الخروج فأعطيته الورقة، رآها ثم طلب مني سيجارة، قلت له: إنني لا أدخن، ففتح الباب وتركني أمضي في حال سبيلي، دون أن تكون هناك أي مضايقات أو رِشى كما أفهمني صديقي خالد شداد في صلالة.

شعرت براحة وأنا أمرق أخيرا في أرض اليمن السعيد أرض الأبطال والطيبين وأجمل الشعراء والمطربين، وأول منطقة تستقبلك من اليمن هي "حوف" قرية جميلة هادئة على سفح جبل ذات معماري عربي حجري قديم فجميع المباني من الحجر والآجر ولا وجود للأسمنت والطابوق إلا فيما ندر من المباني الجديدة، وبسرعة ربطت المذياع بأغاني أبي بكر سالم المحفوظة في هاتفي، ومضيت بسيارتي مسرعا ألتهم الشارع النظيف الذي شُيّد على نفقة حكومة عُمان على ما أخبرني بعض الشباب اليمنيين الذين التقيت بهم في فندق موفينبيك المهرة. كنت استمع إلى أغنية "رسينا يا شواطي الشوق، رسينا.." وأنا أنطلق في الطريق البحري وأشاهد قوارب الصيد اليدوية في البحر، حتى وصلت إلى قرية اسمها الفتك وهي قرية كبيرة جدا وأغلب مبانيها من الحجر والطين ولم أكد أرى أناسا إلا ما ندر وفي وسطها واد واسع تكثر فيه أشجار النخيل والليمون والمانجو وهو أقرب شبها بالأودية في جبال الحجر من داخلية عمان، ثم أكملت طريقي فوجدت أطفالا رثي الملابس وأُمًّا واقفة على مبعدة منهم استوقفوني واستجدوني فأعطيتهم ريالا وسألوني عن قيمته باليمني فقلت لا أعرف، وسألتهم عن منزلهم وأشاروا إلى نخلة تحتها حقيبة وصناديق كارتونية، فرثيت لحالهم. ثم مضيت حتى وصلت إلى طريق مغلق بسيارة بيكاب وحولها رجال مدججون بالرشاشات، وعندما وصلت فتحوا لي الطريق دون أن يسألوني شيئا، مضيت حتى استوقفني شابان، سألاني إذا كان بالإمكان أن أقلهم إلى المحطة، فقلت نعم، فإذا بجميع الشباب خلفهم يصعدون السيارة، اثنان في الأمام وأربعة في الخلف واثنان في الدبة، كانت المحطة عبارة عن محطة بنزين وبدا أنهم كانوا ذاهبين للعمل في تلك المحطة، شكروني ودعوا لي بالتوفيق..، ثم وصلت إلى منطقة اسمها "الفيدمي" واستوقفتني مجموعة من الشباب فلم أقف لهم، واستوقفني ثلاثة أطفال على مسافة أمتار منهم بشرتهم سمراء، فوقفت لهم وصعدوا، سألني أحدهم: لماذا لم تقف لمجموعة الشباب الذين استوقفوك قبلنا، فلم أجبه، قال لي: "أحسن لك ما زينين". ثم أخبروني بأنهم أطفال صوماليون هاجر آباؤهم إلى اليمن هربا من الحروب في الصومال، وقد وجدوا راحة في الحديث معي فأخذوا يمزحون كثيرا ومندهشون جدا من سيارتي التيدا موديل 2011 وتقنياتها، وسعيدون أيضا بالحياة في اليمن ففيها أمان وخير كثير على حد قول أكبرهم، وهم يعملون في الصيد مع الكبار الذي يؤمّن لهم قوت يومهم ويرتادون المدارس ولديهم وقت فراغ للعب والعبث. طبعا كانوا حفاة جياعا وملابسهم رثة.

كانوا قاصدي مدينة "الغيضة" وهي عاصمة محافظة المهرة، وهي مقصدي أيضا، كانوا في مهمة لشراء الأرز والطحين والزيت وإحضار الثلاجة من محل التصليح، كان اثنان في عمر 10 سنوات لمهمة التبضع والأكبر 14 سنة لإحضار الثلاجة، ولم أسأله كيف سيعيد الثلاجة إلى قريته النائية. لمدينة الغيضة بوابتان عليهما علم اليمن، إحداهما من الشارع المقبل من عُمان والثانية للشارع المقبل من المكلا وفي كلتا البوابتين جنود مدججون بالسلاح فتحوا لنا البوابة دون أن يستوقفونا على غير العادة، أما الغيضة فهي حاضرة قبائل المهرة القاطنة في الجبال والسهول المحيطة بها ومركزهم وهم يعتزون بها وبلغتهم المهرية ويدرسونها في مدارسهم، وفي شوارعها تجد الأعلام الفلسطينية أكثر انتشارا من الأعلام اليمنية نصرة لأهالي غزة ضد العدوان، قال لي الأطفال قبل توديعي: "اذهب إلى الكورنيش وهناك ستجد فندقا كبيرا هو أحسن واحد لكنه غالي"، وذهبت فوجدت الكورنيش كبيرا جدا فيه شوارع كثيرة ومواقف كثيرة ومظلات وحمامات ومحلات للبيع بأحسن ما يكون من تصاميم لم أر مثلها من اتساع ورفاهية في بلدي عُمان، وكانت أكياس القات تتطاير في كل مكان، أما الفندق الذي دلوني عليه فكان مبنى المحافظ وليس فندقا، فرجعت أدراجي إلى السوق وهناك دلتني امرأة يمنية التقطتها في الطريق على فندق موفينبيك المهرة والذي جرت فيه حكايات شيقة سأسردها لكم في فرصة أخرى.