المكتبات الأهلية العامة نواة لمراكز ثقافية واعدة
لم تعد المكتبات الأهلية مجرد قاعات للقراءة وإعارة الكتب، بل حاولت إداراتها مواكبة أحلام جيل الشباب الرَّقمي، المنفتح على وسائل «التواصُل الاجتماعي»، وبعضها خرج من مفهوم المكتبة، لتكون نواة لمَراكز ثقافية واعدة، ببرامج مختلفة ومغايرة.
وإطلالة على الماضي: ففي سنوات التسعينات ظهرت في بعض الولايات العُمانية، بادرة تأسيس مكتبات أهلية، تبعتها تجارب مماثلة في ولايات أخرى، في وقت لم يَعرِف المجتمع فيه المكتبات الأهلية، و(مَنْ يَفعَلِ الخيرَ لا يُعدَمْ جَوازِيَهُ .. لا يَذهَبُ العُرْفُ بينَ اللهِ والناسِ).
وقد اطلعت على تجربتين؛ الأولى تجربة «مكتبة الشيخ محمد بن مسعود البوسعيدي» في ولاية مَنَح، افتتحت عام 1998م، وتحوَّلت بهمة القائمين عليها إلى: «مركز مَنَح الثقافي»، افتتح في نوفمبر عام 2017م، وأصبحت المكتبة بعد عشرين عامًا ضمن مكوِّنات المركز، يقدم برامج متنوعة للتنمية البشرية، ومنذ افتتاحه قدم 250 برنامجًا، بعضها يمتد إلى عام كامل.
يتألف مركز منح الثقافي من عدة مبانٍ؛ مبنى خاص بالمكتبة، وما يتبعها من خدمات، ومبنى للنادي العلمي والاستوديو، يقدم برامج علمية، وتسجيل حلقات تبث على موقع اليوتيوب، ويتألف الاستوديو من قسمين خاصين بالتسجيل التلفزيوني والصوتي، والمبنى الثالث خاص بالتعليم والتدريب، وفيه قاعة متعددة الأغراض، كما يضم مبنى المسرح المفتوح، ومعه غرفة تحكم، ويكن متابعة أنشطته من خلال الحسابات الخاصة به في الفيسبوك والتويتر.
والثانية تجربة «مكتبة الندوة الأهلية العامة» في ولاية بهلا، افتتحت عام 1996م، وهي الأخرى مركز إشعاع ثقافي، رغم أنها ما تزال بمُسمَّاها الأول: «مكتبة»!، ويضم موقع المكتبة مسرحًا مفتوحًا يقدَّم فيه الفعاليات الثقافية والفنية، كالندوات والأعمال المسرحية الهادفة.
هناك تجارب أخرى واعدة، كتجربة «مركز سناو الثقافي» في ولاية سناو، الذي افتتح عام 2014م، نظم المركز أكثر من ندوة ثقافية، من بينها ندوة عن الشيخ سالم بن حمد الحارثي رحمه الله، وكذلك تجربة مكتبة «وقف الحمراء»، ومكتبة «الشيخ محسن بن زهران العبري» في ولاية الحمراء، وفي نزوى مدينة العلم والثقافة، تم إحياء «المكتبة الأهلية العامة»، بإعادة بنائها وتأسيسها من جديد، يتزامن معها افتتاح «مركز الإبداع للثقافة والابتكار»، وفي مختلف ولايات الداخلية وبقية محافظات السلطنة، توجد مكتبات ومراكز ثقافية، أصبحت هذه الأيام مقصدًا للشباب، يترددون إليها، للاستفادة من البرامج التي تقدمها.
إدارات المكتبات والمراكز استحدثت برامج لتجسير العلاقة مع المجتمع، الإدارات المتجددة تعرف ما يريده الشباب، ليستفيد من برامج تُعينهم على مناهجهم الدراسية، وخلال الإجازة الصيفية، وفترة إغلاق المدارس، التي تصل إلى أكثر من ثلاثة أشهر، تعمل فيها إدارات المكتبات والمراكز كخليَّة نحل، من أجل أن تتواصل مع المجتمع، ببرامج ترضي طموح الشباب، ومحاولة نزعهم من مشغلة ولهو العالم الرَّقمي، والوَهْم المُخدِّر للعُقول، في هواتفهم وحواسيبهم، ومتابعة سيل التفاهات.
خلال الفترة الماضية، تواصلت مع «دائرة المكتبات والمراكز الثقافية الأهلية» بوزارة الثقافة والرياضة والشباب، للاطلاع عن كَثَب على الدور الذي تقوم به الوزارة، باعتبارها المسؤول الرَّسمي عن المكتبات والمراكز الثقافية الأهلية، والمشرفة على الأنشطة الذي تقوم به، فحَصلتُ منهم على تقرير، يتناول الدور الذي تقوم به هذه المكتبات الأهلية، وإشراف الوزارة عليها، حيث تقوم بتوفير (الكتب ووسائط المعلومات، وتنظيم المحاضرات والندوات، وثمة برامج تُعنى بالطفل، كما لهذه المكتبات والمراكز دور في الحفاظ على المخطوطات العُمانية، من خلال جمعها وتصويرها رقميًا، وتحقيق هذه المخطوطات)، الفقرة الواردة بين هلالين هي من التقرير ذاته.
أما عن المكتبات الأهلية التي تشرف عليها وزارة الثقافة والرياضة والشباب، فعددها يبلغ: (61 مكتبة أهلية عامة) في مختلف المحافظات العمانية؛ أربع منها في مسقط، وواحدة في ظفار، و21 مكتبة في الداخلية، و8 في جنوب الباطنة، و3 في جنوب الشرقية، و14 في شمال الشرقية، وواحدة في البريمي، و3 في الظاهرة، ويبلغ عدد المراكز الثقافية الأهلية سبعة مراكز؛ في سناو، ومنح، وبدية، وإبراء، والسيب، ونزوى، وهذه المعلومات من التقرير ذاتها، وعلمت أنه قبل أيام، تم إشهار مركز ثقافي في ولاية إزكي، ليكون إضافة واعدة، ومن التقرير الوزاري أيضًا، هذه الفقرة الختامية: (تعمل الوزارة حاليًا على إعداد خطة عمل، لدراسة ومراجعة اللوائح، بهدف تسهيل الإجراءات، وتحسين أداء وتنظيم عمل المكتبات، والمراكز الثقافية الأهلية).
أغلب هذه المكتبات والمراكز تعيش هذه الأيام في تنافس حميمي، لتقديم برامج تثقيفية وتعليمية تخدم أبناء القرية أو الولاية أو المدينة، بعض هذه المكتبات تميَّزت بعمل مختلف، باستحداث غرف بحثية، وتجربة مكتبة الندوة الأهلية ببهلا دائمًا في البال ووضح المثال، فهذه المكتبة التي تأسست من غرفة صغيرة، أصبحت اليوم تطاول المراكز الثقافية، وإن لم يتغير مسماها بعد إلى مركز، ومن ضمن مرافقها غرفة بحثية تحمل اسم: «غرفة بهلا»، وبرأيي أن هذه الغرفة أنموذج رائع، يُحتذى به في العمل الثقافي الأهلي، والتاريخ العماني قديمًا وحديثًا بحاجة إلى موسوعات لتوثيقه.
يحدثني ناصر الخروصي، المشرف على الغرفة، يقول: استحدثت عام 2008م، وهي تُعنى بالجانب التوثيقي والبحثي، التوثيقي يتمحور في جمع كل ما يمت بصِلة لولاية بهلا؛ من كتب ومخطوطات ومعلومات ووثائق مواد سمعية ومرئية، وغيرها من المعلومات التي تخص بهلا قديمًا وحديثًا.
أما الجانب البحثي، فتشجع الغرفة الباحثين والدارسين، للكتابة عن بهلا في أي من المجالات، التاريخية والثقافية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وللغرفة مشروع تشرف عليه، وهو «موسُوعة بهلا الرَّقمية»، وهي شاشة تعمل باللمس، ومن خلالها يمكن للزائر الاطلاع على معلومات مختصرة عن بهلا بتاريخها وعلمائها ومعالمها الأثرية، وغير ذلك.
ولغرفة بهلا مشاريع ثقافية، تقوم بها، كجمع المخطوطات والوثائق وتحقيق الكتب، وتقوم بتوثيق الأخبار والاستطلاعات والتقارير المنشورة في الصحف المحلية عن ولاية بهلا، وأجرت مقابلات مسجلة مع 60 شخصية من كبار السن، الذين لهم أدوار بارزة في الولاية، ضمن مشروع «ذاكرة بهلا الشفاهية».
ومن ضمن مشاريع الغرفة تحقيق كتاب «منهاج العدل» (من مؤلفات القرن العاشر الهجري)، وهو موسوعة فقهية واجتماعية وتاريخية، للشيخ عمر بن سعيد البهلوي، ومن المؤمل أن يخرج بعد التحقيق في ثمانية مجلدات، وللغرفة إصدارات من الكتب كذلك، من بينها: «أبو زيد عبدالله بن محمد الريامي السيرة والآثار والأعمال»، وكتاب «الدور الحضاري العماني»، و«السبلة العمانية»، و«بهلا ملامح من التاريخ والحضارة»، وكتاب «صُوَر وذكريات شاهد على عصر النهضة العُمانية»، وغيرها.
صباح الثلاثاء الماضي، شاركتُ في اجتماع تحضيري، نظمته «دائرة الثقافة والرياضة والشباب» بمحافظة الداخلية، لتقديم ملتقى يجمع بين المكتبات الأهلية، ينطلق من «مكتبة مركز نزوى الثقافي»، وهي ضمن مكتبتين رسميتين، تشرف عليهما وزارة الثقافة والرياضة والشباب، الثانية «المكتبة العامة بالمديرية العامة للثقافة والرياضة والشباب بمحافظة ظفار».
ورأيت في حديث المشاركين في الاجتماع، وهم يمثلون المكتبات الأهلية، رغبة في إبراز دور المكتبات والمراكز الأهلية، مؤكدين أهمية الدور الذي تقوم به، لتتلاقى الأفكار، وتترابط الجهود، وتتعانق المبادرات الثقافية، وقدموا عصفًا ذهنيًا لمجموعة من الأفكار، يمكن أن تثري الملتقى، ومن المؤمل إقامته خلال الشهر القادم، مع الدعاء أن يوفق الله الجميع.
