محمد الحضرمي
محمد الحضرمي
ثقافة

أضاميم: أسفار العمانيين وهجراتهم إلى دول الخليج وشرق إفريقيا

22 يناير 2022
22 يناير 2022

خلال سنوات الخمسينيات والستينيات الماضية، كان كثير من العمانيين كأسلافهم السابقين، يحزمون أمتعتهم للسفر إلى الخارج، من أجل العمل وكسب الرزق، فالزراعة لا تنتج مردودًا بالقدر الذي يكفي لتحقيق أحلامهم في الحياة، وكانت العيون تتطلع إلى مستقبل يشرق خارج الوطن، هناك في البعيد، تتحقق أحلام السندباد المغامر، والعاشق للترحال، وبعد غربة طويلة، سوف يعود بالمال والغنائم ونفائس الأمتعة، وقد لا يعود بشيء، ولا يعود المسافرون، فينسون أوطانهم، وكأنها أصبحت بعيدة المنال.

السفر إلى الخارج، ديدن العمانيين كما تقول كتب التاريخ ويحدثنا المؤرخون، ينتشرون في أرض الله الواسعة الذلول، ويمشون في مناكبها، ويأكلون من رزق الله، أقدامهم رصفت دروب المعمورة، وخطواتهم ذابت فيها، منهم من ذهب إلى زنجبار، الفردوس الأخضر، ومنهم من ذهب إلى البحرين، المرفأ الآمن، والجزيرة التي أحبها العمانيون، وأحبوا أهلها، وأحبوهم كذلك، وكان من بينهم أبي، سافر إلى البحرين مع مجموعة من رفاقه، وبقي فيها عشر سنوات، يعمل في وظائف متواضعة، ويعود إلى القرية مرة كل ثلاث سنوات، وكانت عودته الأخيرة مطلع السبعينيات.

كانت الرِّحلة تأخذ أياما، تتعرض خلالها سفن المسافرين إلى ضربات قوية من الرِّياح العاتية، فالبحر ليس رهوًا دائمًا، وقد تغرق السفن، وينهك المسافرون، وما كان الوصول إلى البحرين سهلًا، إلا بعد مغامرة مع البحر بأمواجه الغاضبة، كانت الحياة فيها سهلة ويسيرة، ولم يشعر أبي بالغربة، ولا تزال أخبار من عمل معهم تصل إليه، وهناك من العمانيين من لا يزال مقيمًا في مملكة البحرين، منذ تلك الفترة إلى اليوم.

عاد أبي وفي وجدانه الكثير من الذكريات، يسردها لنا في جلساته، ويتحدث بقصص وحكايات سمعناها منه مرات كثيرة، فهو لا يمل الحديث عنها، لأنها مرتبطة بأجمل سنوات عمره، التي قضاها بين مزارع «الزلَّاق» وأسواق «المَنامَة» و«أم الحَصَم»، كانت البحرين حلمه هو ورفاقه، وفيها عرفوا ولأول مرة الكهرباء، والمستشفيات، ومدارس التعليم، وتفتحت أعينهم على الكثير من المباهج، وفيها تعلموا الاعتماد على الذات، وشاركوا الناس في مناسباتهم وأفراحهم وأتراحهم، كما كان يسمرون على المذياع الذي يبث أغاني كوكب الشرق، ودندنات محمد زويِّد والرفاعي على العود، وعرفت من أحاديثه مذيعًا اسمه: إبراهيم كانو، وحين عاد أبي من البحرين، كان جهاز المذياع ضمن مشترياته، وكان إلى فترة قريبة إضمامه في مندوس مغلق، قبل أن نخرجه منه، ثم يضيع منا بعد ذلك.

ومثل أبي كثير، ولعلكم تتذكرون آباءكم، أو تعرفون أحدًا خرج من قريته بحثًا عن الرزق، في بلدان كانت حينها بعيدة، كالبحرين، مهوى أفئدة العمانيين، تحلّق إليها الأحلام كما تحلّق إلى بلدان السَّواحل وخمائل زنجبار في شرق إفريقيا، أو إلى أرض الحرمين الشريفين، لأداء مناسك الحج، وكثير من العُمانيين عمل في دول الخليج العربية، وأقاموا فيها آمنين.

لقد شهدت سنوات الخمسينيات والستينيات الماضية أسفارًا وهجرات كثيرة من العمانيين إلى بلدان وأوطان وجزر وسواحل وقارات بعيدة، من أجل كسب الرزق، والعمل والتعلم، وكان العماني يحمل معه ثقافته وتراثه الفكري وهويته، فهو إنسان مضيء أينما حلّ، وكان العائدون إلى أوطانهم يكنزون حقائبهم بالهدايا، وكانت النساء يتفاخرن بما يعود به أزواجهن، كما يتفاخر الأولاد كذلك، فأجمل الهدايا هي التي تأتي من الخارج البعيد، وأعذب الرسائل تلك التي يكتبها الوالد لأولاده، ويسأل فيها عنهم بلغة تتقطر شوقًا وتفيض محبة، أو يرسل لهم مع أحد القادمين شيئًا مما يحتاجونه، وهداياه أيا كانت ستكون أجمل ما يتلقونه منه.

هناك هدايا ثقافية يأتي بها العائدون إلى الوطن، مطبوعة في القاهرة ودمشق، توزعها «المكتبة الإسلامية» في البحرين لصاحبها عبدالوهاب عباس، ولكثرة الطلب عليها من قبل العمانيين، تقوم بإعادة تصويرها في الهند، كانت هذه الكتب حلم طلاب العلم في تلك السنوات، ككتابي «جوهر النظام» و«تحفة الأعيان» للشيخ السالمي، وديواني «الستالي» و«النبهاني» وكتاب «الدعائم» لابن النظر، وغيرها من الكتب، حصلوا عليها في أسفارهم.

لقد سافر العمانيون إلى أقاصي العالم، حملتهم أقدارهم قبل أقدامهم، وهممهم قبل همومهم، إلى تلك البلدان، فمخروا بسفنهم البحار، وقطعوا القارات، وانتقلوا إلى أوطان غريبة عنهم، وألفوها وسكنوها وأقاموا فيها طويلًا، من بينها بلدان شرق إفريقيا، فمنذ أمد بعيد، منذ القرون الهجرية الأولى، كانت بلدان السواحل موطنًا للعمانيين، بل هي عمان الثانية بعد عمان الأم، والوطن الأخضر لقبائل شتى، عاشوا فيها وحكموا بلدانها، وأقاموا فيها حضارة، وكان لها تأثير على ما حولها، ورغم ما كتب عن هجرة العمانيين إلى تلك السواحل والجزر البعيدة، إلا أن هناك الكثير مما لم يكتب عنه.

أما من أقام منهم في بلدان خليجية قريبة، فلا نعرف عنه إلا القليل من الذكريات، تخرج من أفواه الناس الذين عاشوا فيها خلال تلك المرحلة، كما تفوح رائحة العطر من القوارير، فهي الأخرى بحاجة إلى تدوين، من خلال اللقاء بمن تبقى منهم حيًا، وعاشوا في تلك الأوطان، ودراسة تأثيرهم في المجتمع، وتأثرهم به، وكثير من العمانيين درسوا في مدارس تلك البلدان، وتعلموا مِهَنًا مارسوها بعد عودتهم إلى عُمان.

وهناك من درس في العراق، وانتشروا بين بغداد البصرة، وكأن التاريخ يعيد نفسه، بين القرون الهجرية الأولى، حيث أقام فيها كبار الأدباء ذوو الأصول العُمانية، وبين العقود الماضية، حيث انتشر العمانيون في تلك المدن، وهناك من تعلم في الجزائر، ودرس في «معهد الحياة» بمدينة القرارة - غرداية، بوادي ميزاب، فوجان من الطلاب العمانيين تدافعوا إلى مقاعد الدراسة في هذا المعهد، الأول وصل عام 1964م، والثاني عام 1966م، ودرسوا الفقه وعلوم الشريعة من مشايخه، ولا يزال أولئك الطلاب أحياءً، يذكرون تلك الأيام، ويمتنون للأقدار التي دفعتهم للسفر، فازداد وعيهم بالحياة، وعادوا بخبرات وثقافات.

إنه حلم السفر والهجرة في ذلك الزمان البعيد، إلى بلدان مليئة بالكنوز الإنسانية، حلم السندباد العماني الذي لا ينتهي، ولا يزال ذلك السندباد يسعى في أرض الله، وينتقل بين أطرافها المترامية، كطائر مهاجر، يبحث عن أغصان مورقة.

وأخيرًا: لم أقف على دراسات تتناول حياة العمانيين في دول مجلس التعاون، وإقامتهم فيها، ولكن هناك دراسات لهجراتهم إلى بلدان شرق إفريقيا، من بينها كتاب: «الهجرات العمانية إلى شرق إفريقيا، ما بين القرنين الأول والسابع الهجريين»، للباحث سعيد بن سالم النعماني، صدر عن النادي الثقافي بالتعاون مع دار الفرقد، وبدعم من المركز الوطني لدعم الكتاب، ط1، 2012م، ودراسة بعنوان: «العمانيون وأثرهم الثقافي والفكري في شرق إفريقيا، 1870-1970م»، للدكتورة هدى الزدجالية، الصادرة عن الجمعية العمانية للكتَّاب والأدباء ودار نثر، ط1، 2021م.

وخلال الفترة من 8 إلى 16 يونيو 2013م، زار وفد ثقافي وإعلامي عماني «جزر القمر»، وثقت الفعاليات التي قدمها في كتاب بعنوان: «أيامنا في القمر»، تضمن محاضرات ولقاءات ومقالات ونصوصا شعرية، وصورا ضوئية، صدر عام 2016م، عن مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات العمانية بجامعة نزوى، ومكتبة الندوة العامة ببهلا.