No Image
ثقافة

«أحافير» محمد عبدالكريم الشحي الشعرية

29 مايو 2023
29 مايو 2023

تأخذ القصيدة الشعرية عند محمد عبدالكريم الشحي رؤية فنية خاصة به لاسيما في اشتغالاتها الداخلية وأفكارها ولغتها. إنّ الشحي واحدٌ من الشعراء الذين يشتغلون على مفرداتهم الشعرية بعناية ويختارونها بدقّة، مُشكّلا لوحةً شعرية متكاملة العناصر في بنائها.

ويُعدُّ الشحي من الشعراء المُقلّين في نشر نصوصهم الشعرية، إلا أنه كلما قدّم لنا نصا جديدا يقدّمه باشتغالٍ فنيٍ جديدٍ ومتطورٍ، ولعلّ آخر نصوصه المنشورة في الصحف نص (أحافير) الوارد في العدد الثامن من ملحق عمان الثقافي بتاريخ 25 أغسطس 2022م، وهو نص يتشكّل ضمن ثلاثة عشر مقطعا شعريا مختلفا في الفكرة والبناء والتصوير الفني.

تتقاطع المقاطع الشعرية مع الرؤية الفلسفية للحياة، فيعيد الشاعر ترتيبها وتكوين علاقات داخلية يُضمرها النص أو يبوح بها. ولعلّ اسم أحافير الذي أطلقه على النص يدلّ على هذه التقاطعات التي يُعبّر عنها وتتماشى مع الواقع والحياة الإنسانية والكون. إنها رؤى متشكّلة من الإحساس البصري، وعالقة في الذات مما دفع بها كي تنحفر عميقا في الوجدان؛ فيظهر من خلالها امتزاجٌ بين دلالات الحجر بما يمثّله من معاني القسوة والصلابة، وبين دلالات الماء بما يتضاد معه من معاني؛ إذ إنّ الحياة قائمة في تركيبتها على عنصري الحجر والماء، القسوة واللين، الكُره والحب، وهو ما دفع بالشاعر إلى تأمل الأشياء حوله وإعادة ترتيبها وتركيبها نصا شعريا ينطلق من فكرة الحياة والرحيل، أو الميلاد والموت.

لقارئ النص أن يتأمل مثل هذه الأفكار، على الأقل في المقطعين: الأول والأخير؛ إذ يفتتح الشحي النص بإحداث علاقاتِ امتزاجٍ وتضادٍ بين المحسوس واللامحسوس، بين القسوة واللين، بين البقاء والرحيل، بين الواقع والطفولة، بين الحركة والحزن.

لقد شبّه الشاعر المحسوس والواقعي: (الرصيف، الشجرة، القبيلة، البلاد، عقرب الساعة) بغير المحسوس: (المجاز، الرحيل، الحلم، التأويل، السعال، الشجن)، ثم عاد ليشبّه غير المحسوس بالمحسوس، فشبّه اللغة بالماء، وذلك لإيجاد علاقةٍ منفتحةٍ على الواقع والحياة، يقول:

شبّه الشاعرُ

حجرَ الرصيف الملوّن بالمجاز

والشجرةَ بالرحيلِ

والقبيلةَ بالحلم

والبلادَ بالتأويلِ

والمّارةَ بمصابيحِ الشوارع

والنجمات البعيدات بصبايا الطفولة

شبه وخزَ عقربِ الساعة المدبب بالسعال

شبه استدارةَ الرمالِ بتلفّت الشجن

كان ينقصه الدمعُ

فشبه اللغة بالماءِ

وانتحب.

لكن هذا المقطع له ارتباط ودلالات بالمقطع الأخير الذي يقول فيه:

لم يكن نبيا

لكنه كان يجمع نداءات الغرقى من على الصخور

ويضعها في زجاجات مغلقة

يرسلها في ندم الرياح

يحملها البحر إلى حيث تكدّس نواح الأمهات

فتعود إليه في الصباح محملة برماد أغاني البحارة

وبقايا منامات الأطفال.

فارتباط الشاعر في المقطع الأول بالنبي في المقطع الأخير يجعلنا نتخيّل تقاطعات الدور والرسالة التي يؤديها الشاعر في الحياة، وكأنها رسالة ينطلق منها مُعبّرا عن المشاعر والأحاسيس في المقام الأول. إنّ دلالات الغرقى والندم والنواح والأغاني والمنامات تُشير إلى انفتاح النص منذ بدايات تشكّله على هيئة أحافير خالدة كان يُفتّش عنها، وكأنّ النص في دلالاته قائم بين رسالتي الشاعر والنبي، وكأنّ الحياة تتسع صورُها وتتبعثر مُشكّلةً حياة مليئة بالاتساع والفوضى؛ لذا نجد المقاطع الشعرية تعمل على تعدّد الصور وتبعثرها لحظة التقاطعات المكانية والزمانية. نجد الصور المتعدّدة التي تُحيل على تعدّدها في الحياة وانعكاسها من الواقع، سيفاجئنا النص بذلك قائلا:

أيها الطائر

سيسقط الحجر الذي ارتطم بجناحك أولا

والذين يرمون أحلامهم في البئر ويفسرون منامات

أحجاره

هم من سيمنحون لكل قافلة نبيا

أيها الطائر

لا تصدّق جرة الفخار والخديعة.

ولا تضع في جوفها حجرا آخر

ليرفع الماء لـك على رأسه كما يرفع في الفجـر المـوتى

الأطفال المياه من الأسفل إلى فم النبع

ها قد هبط آخر حجر أسود في جرّة المجال،

وها هي تناديك، وحوافها تفيض

بالدمع، والإنشاد المعصور، وسرائر الخليفة،

ومراثي الأسلاف، والأمومة السائلة

وأسماء الغرباء والجنود والقوافل الذائبة في ليل

الريح والمطر بلا رجعة.

**

أكتبُ فوق الصخرة

أحفرُ فيها خطوطا مستقيمةً

ونقاطا مبعثرةً

وصورة ظبيٍ

ورمحا وقوسا وقلادة

وقافلة تحمل التوابل وماء الورد

وحصانا هاربا من الغزاة

ونجمة بحوافّ مسننة

ثم أعاود قراءة ما كتبت

فتجهش روحي القديمة.

من زاوية أخرى يحاول النص في رؤيته للعالم الواقعي والمتخيل إعادتنا إلى لحظات الحلم وزمن الطفولة الهاربة، فيشكّل منها لوحة تندس بين عذابات الموت والرحيل والغياب، يقول في المقاطع الآتية:

بعد عدة محاولات استطعت أن أربط في أصبع التمثال الحجري

خيط الطائرة الورقية

ليسترد طفولته.

**

- لماذا تنقب بين الصخور عن حجر البركان؟

- لأعرف سر وداعة السحرة والمجانين المقهقهين في القاع.

**

لو كنت حارس المقبرة

كنت سأسمح لشواهد القبور بالكلام عما يراه

نصفها المغروز في القيامة

وفي ظهر الأبدية الناعمة.

**

يا للخيبة،

لم يعد بمقدوري أن أكتبَ عن السمكة الضخمة

التي صارت أحفورةً في صخور جبل مهجور

فقد بردت فضيحة الزمن.

وإذا كان النص ينفتح على كل هذه الرؤى والصُّور مُعيدا بناءها الشعري؛ فإننا نجده يميل إلى التنويع في استخدامات اللغة وتفتيت الإيقاع والموسيقى لجوءا إلى انفتاح سردي أكبر اقتضته الحركة الشعرية الداخلية، وهنا نجد الشحي يُبطّئُ من إيقاعه ويُسرّعه حسب الحاجة إلى ذلك من مقطع لآخر.

يأخذ النص طابع الحكاية بعد مقاطع من اشتغالات اللغة وفنياتها، فيظهر لنا صوت الشاعر الحكّاء مستخدما ضمائر المتكلم كما في المقطع الثامن قائلا:

كل ليلة أنسى فأقول:

سأفرك بين حجرين ثمرة الشجرة التي لم تحمل عش الطائر

لأرى دمعته المخبوءة في البذرة

و سأبقي للرحى القمح المنثور على الأضرحة

لأرسم رغيف الشهداء بالدم والغبار

وسأربي شمعة

لترثني ولتنثر رفاتي على حجر الزاوية

والليلة سأخرج من القصائد

لأبيع الكلمات المثلجة تحت المسلة الصامتة

وسأرمي مناحات الورد في حوض النوافير

ليعود الماء إلى قلب الصخرة

لكنني

كل ليلة أتذكّر أيضا بأنني حجر كريم

نسي مهارة رسم الدوائر على الماء

حينما أصبح حجرا في دائرة.

الأمر ذاته في المقطع الثاني عشر في استخدام الضمائر ذاتها، والأسلوب ذاته:

هذه الغيوم السوداء لن تستطيع اللحاق بي

فأنا في طور النجم

حين كنت في طور الحجر احتفظت بالماء والبذرة

وحين كنت في طور الشجرة

قايضت ورقي بالريش فعلمتني العصافير الطيران

وحينما ستكون الغيوم السوداء في طور النار

التي تشتعل بدم الكواكب الزرقاء

سأكون قد بلغت مرتبة دموع شجر الجنة

أتهيأ في الخلد لأكون

في طور نهر الأبدية السابح

بلوح المعنى المحفوظ.

إنّ عملية بناء النص الشعري الحديث عملية إشكالية وشاقّة، تتطلب توظيفا دقيقا للمفردات التي يشتغل عليها، وهذا الاشتغال هو الذي يطرقه دائما مازجا بين المعرفة والتخييل والواقع مكوّنا نصا شعريا نُحِتَ من لغة الشعر. إن عملية البناء هذه هي ذاتها التي قصدها الشحي في حوار سابق له عندما عبّر عن ماهية القصيدة الشعرية كما يصوّرها فقال: «التلاقي بين الفلسفة والشعر والتصوف هو القصيدة»، ولعل هذه الفكرة هي اتجاه يقصده محمد الشحي ويعمد في السير على نهجه في غير نص من نصوصه؛ إذ تفيض نصوصه الشعرية بالمرجعيات الحية التي يستقي منها مفرداته الشعرية ويذيبها في بوتقة النص محاولا إيجاد نقطة ينطلق منها لتشكيل جوهر النص، ولعل نص (أحافير) واحد من نصوصه الشعرية تلك.