ثقافة

نقاشات معمّقة تضيء تحوّلات الكتابة وأسئلتها الجمالية في مهرجان الشعر العماني

15 ديسمبر 2025
كتب ـ فيصل بن سعيد العلوي
15 ديسمبر 2025

القراءات المشاركة تتواصل والنقاد يفتحون أرشيف التجارب المكرمة - 

مسعود الحمداني: نصوص «الحجري» تُعيد تشكيل القصيدة الشعبية عبر البعدين الدرامي والسردي - 

أحمد مسلّط: هلالة الحمدانية أشعلت جذوة القصيدة ووسّعت أفق الشعر الشعبي بوهج إنساني متفرّد -

 

تتواصل لليوم الثالث على التوالي فعاليات مهرجان الشعر العُماني في دورته الثالثة عشرة، حيث تُقام في العاشرة من صباح اليوم بفندق جراند ميلينيوم مسقط جلسة نقدية بعنوان «قراءات في تجارب المكرّمين في مجال الشعر الفصيح»، يقدّم خلالها الدكتور عيسى السليماني ورقة نقدية في التجربة الشعرية للشاعر سالم بن علي الكلباني، فيما يقدّم الدكتور محمد الحجري ورقة حول التجربة الشعرية للشيخ محمد بن عيسى الحارثي (أبو الفضل)، ويدير الجلسة الشاعر إبراهيم سعيد، وفي السابعة والنصف من مساء اليوم، يحتضن مسرح وزارة الإعلام أمسية شعرية يشارك فيها الشعراء الضيوف: الدكتور حسن نجمي من المملكة المغربية، وزينب البلوشية من دولة الإمارات العربية المتحدة، وحسن عامر من جمهورية مصر العربية، وناصر الحمادين من المملكة العربية السعودية، وياسر الأطرش من الجمهورية العربية السورية، ويحيى العلاق من جمهورية العراق، وحامد زيد من دولة الكويت، حيث يقدّم المشاركون قراءات شعرية تعكس تنوّع التجارب والأساليب الشعرية العربية المعاصرة.

جلسات نقدية مصاحبة

وكانت قد بدأت اليوم أولى الفعاليات حيث انطلقت في العاشرة من صباح اليوم بفندق جراند ميلينيوم مسقط جلسة قراءات في تجارب المكرّمين في مجال الشعر الشعبي، قدّم خلالها الشاعر مسعود الحمداني ورقة حول التجربة الشعرية للشاعر حمود بن سليمان الحجري، فيما قدّم الشاعر أحمد مسلّط ورقة عن تجربة الشاعرة العُمانية الراحلة هلالة بنت خليفة الحمدانية، وأدار الجلسة الشاعر إبراهيم سعيد.

بداية قدّم الشاعر أحمد مسلّط ورقة نقدية بعنوان «قراءة في فكر هلالة الحمدانية: جذوة القصيدة ووهج الشعر»، تناول فيها التجربة الشعرية للشاعرة والإعلامية العُمانية الراحلة هلالة بنت خليفة الحمدانية، متوقفا عند حضورها الإنساني والإبداعي، وما تركه رحيلها من أثر عميق في الوجدان الشعري والثقافي.

واستهل «مسلّط» ورقته بالتأكيد على أن رحيل الشاعر أو الشاعرة يشبه انطفاء نجمة في سماء الشعر، إذ توصد برحيله أبواب كانت مشرعة للقصيدة، وتبقى آثارها في الطرقات وفي تفاصيل الحياة اليومية التي لا يدرك عمقها إلا الشعراء. وأشار إلى أن فقدان الشاعر يضع المتلقي في مواجهة مباشرة مع مفردة الغياب، في محاولة للبحث عن كلمات قادرة على ملامسة شعور الفقد والوفاء له، مستحضرا نماذج من الرثاء في التراث العربي، من بينها مرثية أبي الحسن التهامي لابنه، ورثاء المتنبي لخولة الحمدانية، للدلالة على عمق الألم الإنساني المرتبط بالفقد.

وأوضح مسلّط أن كل رحيل هو رحيل مبكر، وأن الغياب في جوهره خسارة، فكيف إذا كان الغياب غياب شاعرة شابة، مشيرا إلى أن هلالة الحمدانية وجدت في الشعر ملاذا ومتنفسا وغواية، وسلكت دروبه للوصول إلى قلوب محبيها قبل حضورها في الأمسيات الشعرية أو اللقاءات التلفزيونية والإذاعية، حيث تنوّعت أدوارها بين شاعرة ومقدمة أمسيات، مدركة أن الشعر ليس مجرد قصيدة تُكتب، بل إحساس تُشكّله الكلمات وروح تُبعث على الورق.

وبيّن «مسلّط» أن ورقته تسعى إلى تقفّي أثر الشاعرة وسبر منجزها الكتابي، بوصفه الجوهر الأهم في تجربتها، مؤكدا أن الاقتراب من سيرة الشاعر يمنح قراءة أعمق للنصوص ويقرب المتلقي من جوهر الشعر ذاته.

وتوقّف «مسلّط» عند نشأة القصيدة لدى هلالة الحمدانية، موضحا أنها منذ مضيّها في كتابة القصيدة الشعبية استشعرت أن الكتابة جزء لا يتجزأ من ذاتها، وأن الشعر الشعبي هو متنفسها الحقيقي، رغم تأثرها ببيئتها الشعرية، لا سيما بوالدها الذي كتب الشعر الفصيح والشعبي معا. وأشار إلى أن هذا التأثر بدا واضحا في بعض نصوصها، مثل نص «لا أكتب الشعر»، الذي تضمّن نوعا من الاقتباس أو التضمين من قصيدة للشاعر أنس الدغيم، وهو ما أضفى على النص قوة في المعنى وبلاغة في المبنى.

وأكد أن الشاعرة، رغم توظيفها أحيانا لمخزونها اللغوي الفصيح داخل النص الشعبي في محاولة لفصحنة القصيدة، آثرت في نهاية المطاف الإبحار في عاميتها، سعيا للوصول إلى شريحة أوسع من الجمهور المتلقي لهذا اللون الشعري، مدركة أن الشعر كائن متحوّل لا يعترف بالحدود أو القوالب الجامدة، وقابل للتجديد والتحديث، وأن هذا التمرّد سمة أصيلة في جوهر الشعر.

وأشار «مسلّط» إلى أن الراحلة كتبت إرهاصات البدايات الأولى، مستشربة صور نصوصها من بيئتها، وباعثة من عاميتها صورا ومجازات أكثر حداثة وجرأة، في محاولات متواصلة للتشكّل الفني، وصقل التجربة، ونضج اللغة، وصناعة قصيدة تمتلك رهافة الحس ونعومة التعبير.

وتناول مسلّط في ورقته انتقال القصيدة الشعبية من التداول الشفاهي إلى التداول المكتوب، موضحا أن حضورها في الصحف والمجلات المحلية بدأ بشكل أكثر وضوحا في ثمانينيات القرن الماضي، حين فتحت تلك المنابر صفحاتها لهذا اللون الشعري، بعد أن ظل لفترة طويلة أقل حضورا من القصيدة الفصحى. وأشار إلى أن هذا التحول أسهم في دفع الشعراء، ومن بينهم هلالة الحمدانية، إلى تطوير تقنيات كتابية حديثة على مستوى الفكرة والصورة والمفردة والشكل، مع المحافظة على ماهية القصيدة الشعبية وعذوبة لغتها، خاصة مع بدايات التسعينيات.

وأكدت الشاعر أحمد مسلط في ورقته أن تجربة هلالة الحمدانية شكّلت منعطفا في مسار القصيدة الشعبية النسوية، وأسهمت في ترسيخ حضور صوت شعري امتلك وعيه بأدواته، وجرأته في التحليق خارج السرب، وبناء قصيدة قادرة على الجمع بين الإحساس الصادق والتشكيل الفني، لتظل نصوصها حاضرة وفاعلة في الذاكرة الشعرية العُمانية، رغم الغياب.

البعد الدرامي في نصوص الحجري

بعدها قدّم الشاعر مسعود الحمداني ورقة نقدية بعنوان «البُعد الدرامي وتقنيات السرد في نصوص حمود الحجري: (شق فجرك ظلامي) و(سنين الغيل) نموذجا»، تناول فيها التجربة الشعرية للشاعر حمود بن سليمان الحجري كونها واحدة من التجارب اللافتة في الشعر الشعبي العُماني المعاصر، ومثالا حيا على التحولات الكتابية والأسلوبية التي شهدها الشعر العامي في سلطنة عُمان.

وأوضح «الحمداني» أن تجربة «الحجري» تقوم على رؤية واضحة وأسلوب كتابي يتميّز بالتكثيف العالي، والجمل الشعرية القصيرة المفتوحة على احتمالات متعددة، إلى جانب استخدام اللغة البيضاء في التعبير عن الحالة الشعورية، واعتماده في معظم نصوصه على الحداثة في اللغة والصورة والتركيب، واتجاهه إلى قصائد التفعيلة، وأحيانا قصيدة النثر، من خلال الشكل الخارجي للنص، وخروجه من جلباب القصائد الكلاسيكية ذات الطرح المباشر والبناء العمودي.

وأشار إلى أن نصوص حمود الحجري، المتمايزة في الشكل والمكثفة في المعنى والمضمون، شكّلت في مجملها سيرة شعرية ذاتية قادرة على سبر أغوار بعيدة، متقاطعة أحيانا مع الأسلوب المسرحي، ومتقاربة في كثير من الأحيان مع أسلوب أدب الرحلات، الأمر الذي يتيح للقارئ تلمّس حساسية المكان والزمان والأثر في نصوصه، ويتجلى ذلك بوضوح في ديواني «شق فجرك ظلامي، وانجلت عتمتي»الصادر عام 2012م، والذي يضم نصين شعريين، وديوان «سنين الغيل» الصادر عام 2014م، الذي يتضمن نصا واحدا أفرده الشاعر لسيرته الشخصية النفسية والمكانية والزمانية.

وبيّن «الحمداني» أن هذه النصوص الثلاثة يحمل كل منها فكرة واحدة محددة، يسرد من خلالها الشاعر حكاياته الذاتية، مستعيدا أسماء الأشخاص، ومرتبا الأحداث، ومارا على الأماكن، وموثّقا الزمن، ومتسكعا في الطرقات، وغائصا في عمق التجربة، ليقدّم للقارئ الدهشة وأحيانا الصدمة، معتمدا على أساليب كتابية ذات صبغة نثرية رغم تقيدها بالوزن، من خلال التركيز على اللقطة، وتكبير اللحظة، والاحتفاء بالمشهد النفسي، والتصاعد الدرامي الإنساني، في مسار دقيق يجمع بين مسرحة النص ولغة الشعر الباذخة، وهو النهج الذي يسير عليه في كثير من نصوصه الأخرى.

وأكد مسعود الحمداني في ورقته أن البعد الدرامي يشكّل مساحة واسعة في تجربة حمود الحجري، حيث لا يُنظر إلى الشعر بوصفه صيغا جامدة تقوم على الوزن والإيقاع والقافية فحسب، بل باعتباره أداة لتصوير مشهد حركي نابض بالحياة. مستشهدا بقول الناقد كلينث بروكس«كل قصيدة هي دراما صغيرة»، موضحا أن الدراما في شعر حمود الحجري تتجلى عبر نصوص ذات بعد مسرحي وتراجيدي في تجلياتها العميقة، وترتكز على عناصر سردية أساسية، تشمل مكان الحدث، وزمنه، وشخصياته، وسيرورة الحدث أو ما يُعرف بالصراع الدرامي داخل النص.

وتوقّفت الورقة عند الذاكرة الشعرية لدى الشاعر «الحجري»، التي تعيد إنتاج المشاهد ذاتها بشكل غير واعٍ، وتطرح إشكالية التذكّر المرتبط بالمكان وأثره في إنتاج النص، مشيرة إلى افتتان الشاعر بالأشخاص الذين يصنعون الحدث، وبالأماكن التي تروي حكاياتها بصمت، ورؤيته للأطلال بوصفها لوحات شاهدة على الزمن وتحولات العصر، ومتصلة بالأرض والجذور.

كما أوضح مسعود الحمداني أن نصوص حمود الحجري تحتوي على مشاهد ذات طابع «وثائقي» تسند تجربته الشعرية، وتشهد على تحولات المكان والزمان في القرية العُمانية عموما، وفي قريته «الظاهر» على وجه الخصوص، وضرب مثالا بنص «سنين الغيل» الذي يحكي فيه الشاعر حكاية رحلته ومغادرته القرية إلى مكان آخر مجهول بالنسبة له في وادي بني خالد، وهي تجربة يغلّفها التوجس، ويفتح فيها صندوق الذاكرة لتبوح بمشاهدها العالقة، محوّلا شخوص النص إلى شهود عيان على التحولات الاجتماعية، ومتخذا من الدراما الشعرية وسيلة لسرد الحكاية وسبيلا لبلوغ غايتها، حيث يرتكز النص المحكي عنده على ثلاث سير متداخلة: سيرة الشخصيات، وسيرة المكان، وسيرة الحدث.

وشهدت الجلسات النقدية تفاعلا لافتا من قبل الحضور، حيث قُدّمت مداخلات نقدية ثرية وأسئلة معمّقة، أسهمت في إثراء النقاش وتوسيع زوايا القراءة حول التجارب الشعرية التي تناولتها الأوراق المقدّمة أضفى على الجلسة بعدا تفاعليا عزّز من قيمتها النقدية والمعرفية.

قراءات الشعر الفصيح

وفي السابعة والنصف من مساء اليوم أُقيمت على مسرح وزارة الإعلام الأمسية الشعرية الأولى للمهرجان، بمشاركة الشعراء المتأهلين في مجال الشعر الفصيح، حيث ألقى الشاعر أشرف العاصمي نصه «رحلة الخبز الأخيرة»، كما ألقى الشاعر أشرف العوفي نصه «كأنه أنا»، وشارك طلال الصلتي بنص «جهة واحدة تكفي»، فيما قدّم عبدالله الذهلي نصه «سبحة جدي»، وألقى قصي النبهاني نص «الْتباس غير متوقع»، وشارك ماجد الندابي بنص «عمامة المهلب على جبال خراسان»، فيما قدّم محمد الفارسي نصه «صوفيٌّ على مقام القلق»، وألقى محمد المعشري نص «في الطريق إلى..»، وشارك ناصر الغساني بنص «صعود إلى المعنى»، واختتم هلال الشيادي الأمسية بنص «غد إليك».

أمسية الشعراء الضيوف

كما شارك في الأمسية الشعراء الضيوف الدكتور محمد بن عبدالكريم الشحي، وخميس قلم، والدكتورة شميسة النعمانية، والدكتور عمر محروس، ويحيى اللزامي بقراءات شعرية، قدّموا خلالها مجموعة من النصوص التي عكست ملامح تجاربهم الإبداعية، وتنوّعت في موضوعاتها ورؤاها الفنية، ممثّلة مساراتهم الشعرية وأساليبهم الخاصة في الكتابة.