ثقافة

آراء متعددة ترصدها «عمان» حول «أدب السيرة الذاتية عربيًا»

28 مارس 2023
بين التحفظ والجرأة والتأريخ والتزييف
28 مارس 2023

شكري المبخوت: السيرة الذاتية تتطلب الجرأة والشجاعة -

الصديق الزيواني: ليس عندنا في العالم العربي كتابة سيرية بالمفهوم الحقيقي -

عبدالله الحكماني: للسيرة مساران المذكرات والسرد الروائي.. والإحجام عن كتابة السير تواضع ونكران للذات -

منير الحايك: يبقى اللاوعي الجمعي مؤثِرا.. وحسابات كثيرة تقيِّد إبداع الكاتب -

محمود الرجبي: هي الوسيلة الأسرع انتشارا للكذب وتزييف الحقيقة وادعاء بطولات تحت ستار شهادة للتاريخ بعد تراكم الأخطاء -

رسول درويش: الخوض في السيرة الروائية يوجب إظهار التجربة الذاتية الحقيقية في قالب فنيّ متخيَّل -

تختلف روايات السيرة الذاتية ما بين الروائيين العرب وما كتب في هذا المجال في الغرب، ورغم الجاذبية التي يحملها هذا النوع من الأدب إلا أنه يبقى محط جدل بين النقاد تحديدا، الذين يخضعونه للمقارنات، وللتصنيفات الكثيرة. البوح في السيرة الذاتية يلامس شغف القراء ويقبلون عليه بشكل كبير، وحتى وإن كان مطعما بالخيال وبكثير من الحوادث المهمة وحبكة الكاتب التي تضفي عليه سردا سلسلا ومشوقا. كتب السير الذاتية الغربية تتمثل في جرأة الطرح والكشف عن خبايا الذات والنفس والحياة بكل تفاصيلها التي يعيشها الكاتب دون أن يعير الثالوث المحرم في الكتابة أي انتباه، ولكن في أدبنا العربي يكون الأمر مختلفا تماما، وتأتي الحسابات مختلفة وتفرض المعايير الاجتماعية نفسها على الكاتب وربما تضغط عليه لكي يخفف من وقع البوح وحتى تجميل بعض الأحداث أو تلطيف الأجواء لاعتبارات كثيرة.

أكثر من الجرأة

سألت أولا الأديب التونسي الدكتور شكري المبخوت عن أدب السيرة الذاتية، وما قاله يوما أن ما دونه طه حسين في كتابه «الأيام» كان ردا وتعليقا على نظرياته والنقد الاجتماعي أكثر مما هو سيرة ذاتية وغايته فكرية، كناقد كيف ترى يجب أن تكون روايات السيرة الذاتية، وهل يجب أن يطغى الخاص على العام في السرد، أي أن تكون اعترافات ذاتية في محراب الرواية...؟

فأجاب المبخوت قائلا: لا توجد وصفات جاهزة. لكن ملاحظتي مفادها أنّ طه حسين تحدّث عن نفسه في الأغلب الأعمّ كما لو كان يتحدّث عن شخص آخر ولم يكن ضمير الغائب في الأيام صدفة. ولكنّ الأصل في السيرة الذاتيّة أن تروي للناس الحميمي الفردي بما فيه من مخازٍ وعيوب وأخطاء ومثالب... إلخ وهذا أمر صعب لأسباب ثقافيّة واجتماعيّة، بل هو صعب لأنّ السيرة الذاتيّة صعبة على النفس مرهقة تتطلّب أكثر من الجرأة والشجاعة.

لا توجد سيرة

بصراحة متناهية يقول الكاتب والأكاديمي الدكتور الجزائري الصديق حاج أحمد الزيواني «ليس عندنا في العالم العربي، كتابة سيرية بالمفهوم الحقيقي لهذا الجنس من الكتابة، عدا تجارب محدودة، مثل ما كتبه الكاتب المغربي محمد شكري، فالكاتب عندنا، حتى اليساري والعلماني أو الذي يعلن تحرّره، يتماهى خلف الحقيقة خلال كتابة الذات، فهو ينخرط في الأيديولوجيا خلال كتابته اللاواعية، وخلال المراجعة يتدخّل مقصه، لقص اللاواعي من أسرار ذاته المغلوبة المقهورة الفاشلة، وهذا خداع للقارئ.

الكاتب العربي في رؤيته لذاته، دائما هو الغالب وغيره المهزوم، نادرا ما قرأت بوحا حقيقيا بدواخل الكاتب، لما عاشته أمه من قهر مع أبيه، أو انهزامه في حلبة الحب مع الحبيبة، وبالتالي فهذا الكاتب هو غراندايزر وسوبرمان دائما.

الكاتب الغربي في كتابته لسيرته، نجده متصالحا مع ذاته، شفافا للحد الذي يرينا نفسه دون عوازل، ولعلّ التقاليد العربية، كبّلت الكاتب بشيء من النفاق الاجتماعي، فحتى عند حديثنا عن الآخرين الموتى، نلتفت ونتريث لشعور أبنائهم وأحفادهم، وهو ما يجعل الكاتب العربي، يتهرّب بشيء من الذكاء، في تصادمه مع هذا الموضوع والكتابة عنه.

ثمّة أمر آخر، وهو أننا عادة عندما نكتب عن الآخرين الموتى، تُرفع لنا راية؛ «اذكروا موتاكم بخير..» إن هذا الحديث الشريف مقدّس في التعاطي معه، حسب سياقاته التي استهدفها الرسول الكريم؛ لكننا نستشهد به في غير مواضعه، كالمقولة الرائجة التي تقول؛ لحوم العلماء مسمومة.. فالعقل العربي رهين التقديس، الذي يحجب رؤية الحقيقة ويعميها.

أستطيع القول، إن الكاتب العربي، نجح في الكتابة الغيرية، وتهرّب من ذاته، بشيء من التحايل والتماهي المخادع للقارئ، السيرة كجنس أدبي في الغرب، مهتمّ به ومحبّب جدا عند القراء، ففيه يقرأ القارئ مكاشفة حقيقة للكاتب مع ذاته، وتجعل المتلقي يسقط هذه الذات الكاتبة المتخيلة مع الذات الحقيقية، وفي ذلك اتساع لرؤية القارئ لكاتبه واقترابه منه دون عوازل التخييل، التي كان يمارسها معه في الرواية مثلا.

مساراتها

وعلى عكس ما يقوله الزيواني أكد الشاعر والكاتب العُماني عبدالله الحكماني أن للسيرة الذاتية في الأدب العربي مكانتها، ومن يتتبع أدبنا العربي منذ عصور ما قبل الإسلام إلى يومنا هذا سيجد للسيرة الذاتية وجودها، ولكنها بدأت من وجهة نظري غير مستقلة بذاتها بل جاءت في متون القصائد كما يتضح من الشعر العربي «الجاهلي والإسلامي والأموي والسياسي والأندلسي والعصور المتتابعة..» إضافة إلى وجود السير في كتب السير والأخبار والتاريخ التي تلت العصر الإسلامي ونشأت في حضن الدول الإسلامية وازدهارها العلمي والحضاري.

أما كجنس مستقل أعتقد أنه بدأ مع ظهور الأدب العربي المعاصر منذ كتاب طه حسين «الأيام» ومن عاصروه وتطور بعد ذلك في الأعمال اللاحقة مثل «الخبز الحافي والشطار» للكاتب المغربي محمد شكري. وهناك السير الذاتية الأخرى التي تترجم سيرة عملية أو فكرية كـ «حياة في الإدارة» للكاتب السعودي الدكتور غازي القصيبي، وإلى يومنا هذا والسيرة الذاتية لها بصمتها في الأدب العربي وقد اتخذت مسارين حيث الأول يعتمد في كتابته على ما يشبه المذكرات، واتخذ هذا الاتجاه أصحاب التدوين العملي والفكري كالعلماء والرؤساء والوزراء وغيرهم، أما المسار الثاني فهو الذي يعتمد على طريقة السرد الروائي وهذا المسار اتخذه الأدباء وصنف النقاد هذا الاتجاه على أنه «فن السيرة الذاتية الروائية».

وبخصوص مقارنة فن السيرة الذاتية في الأدب العربي بالعالمي، يرى الحكماني أن فن السيرة الذاتية خاصة والأدب العربي عامة لا يقل شأنا عن الأدب العالمي إطلاقا لا في الكم ولا في الكيف. لكن في الغرب انتشرت كتابة السير والمذكرات من الطباخ وسائق الشاحنة والمعلم والطبيب والقائد العسكري ورئيس الدولة بينما فن السيرة الذاتية العربي لا يزال يقتصر في كتابة السيرة على فئة دون أخرى بسبب تحفظ العرب على بعض المهن، وهناك سبب آخر لعدم كتابة السيرة وهو التواضع ونكران الذات، وتمنيت لو أن هذين السببين يتم تجاوزهما، ورغم ذلك لا يزال فن السيرة الذاتية عندنا بخير.

ويشير الحكماني مذكرا أن وجود السيرة الذاتية في الأعمال الروائية العربية أو ما يسميه بعض النقاد عند قراءة الرواية نقديا بالراوي العليم، فكثير من الروايات العربية توحي للقارئ بأن المؤلف سرد سيرته في الرواية كهروب من الواقع إلى الخيال. وفي كل الحالات عندما يطعم العمل الأدبي بالسيرة الذاتية يكون له قيمة معرفية عالية ويستطيع البقاء والانتشار أكثر من غيره من الأعمال.

فبركة وتزييف

للكاتب الأردني محمود الرجبي وجهة نظر خاصة في أدب السيرة الذاتية حيث يبدأ بتعريفها قائلا: «السيرة الذاتية أو البيوغرافيا الذاتية «من اللاتينية أوتوبيوغرافيا) هي من أنواع الكتابة الأدبية، وتعني فن سرد الشخص لسيرة حياته أو جزء منها، ويصعب تحديد تعريف معين لهذا النوع الأدبي، لكونه أكثر مرونةً من الأنواع الأخرى وأقل وضوحا، فهي إما أن تتراوح ما بين سرد لأجزاء من حياة الشخص، أو عرض ليومياته، أو اعترافات شخصية، كأن يعترف الكاتب بالأخطاء التي ارتكبها في مرحلة ما من حياته).

إلا أنها الوسيلة الأسرع انتشارا للكذب وتزييف الحقيقة وادعاء بطولات لم تحدث قط تحت ستار شهادة للتاريخ أو ادعاء بعودة الوعي بعد تراكم جبال من الأخطاء والجرائم الإنسانية بحق الحياة ذاتها، وخاصة إذا كان كاتبها سياسيا ترك المسرح السياسي وأراد أن يبرر إسهامه في هزائم أمتنا المتكررة، أو إذا تمت كتابها حول حياة قائد ما، وما زال يحتل كرسي السلطة في بلاده، وينطبق الشيء نفسه على كاتبي السيرة الذاتية للآخرين الذين تحركهم خلال كتابتها أطماعهم، أو أحقادهم أو انحيازهم لفكر أو عقيدة أو حزب ما.

ويتابع الرجبي قائلا: أما السيرة الذاتية في شقها الأدبي والإبداعي للمفكرين والأدباء والشعراء فهي أدهى وأمر وأشد خطورة على العقل الباطن للقارئ، بسبب القدرة الكتابية والأسلوب الرائع في كتابة السيرة الذاتية وتأويل الأحداث من وجهة نظر كاتبها، والتي قد تصل إلى حد الفبركة والتزييف الإبداعي لمجرى الأحداث السابقة بسبب سوء الفهم المقصود وغير المقصود انتصارا لوجهة نظر حزبية ضيقة أو ضغينة وحقد وحسد مقيم تجاه أعمال أدبية لمبدعين آخرين.

السيرة الذاتية باختصار كبير هي: ادعاء الكتابة بتجرد لأحداث لا يمكن أن تكون متجردا من إحساسك ورد أفعالك تجاهها سواء عشتها أو كنت طرفا فيها أو كنت تنظر إليها من زاوية تاريخية تفسيرية بعد انتهائها بوقت طويل. إنها فن الكتابة عن كل الأشياء التي كنت تتمنى فعلها أو تتخيل فعلها، وتدعي أنك فعلتها، أو على الأقل تدعي أنك المحرك الخفي لكافة خيوطها في عالم يعيش كدمى العرائس على مسرح الحياة !!

حذر وصدق

وسألت الروائي والأكاديمي الدكتور منير الحايك من لبنان، هل ترى أن ما كتب عربيا تحت عنوان أدب السيرة الذاتية، يتماهى مع ما دون في هذا المجال عالميا..؟ فقال: «إذا أخذنا بعين الاعتبار مجموع ما ينشر في العالم العربي من كتب أدبية وغير أدبية، مقارنة مع ما ينشر بأيّ لغة من اللغات الحيّة الأخرى، أقول نعم هو يتماهى ويتماشى، حتى وإن قلّ العدد، فعدد الكتب المنشورة قليل، وإن تحدّثنا عن مجموع القرّاء فهذا أمر يحتاج إلى أبحاث واسعة».

وهل الروايات العربية التي تندرج تحت اسم أدب السيرة الذاتية يجب أن تحمل بوحا خاصا وعميقا من حياة الكاتب، أم تأريخا لمراحل مهمة من التاريخ الذي عاشه الكاتب، أم تكون دفاعا عن أفكار ومواقف عاشها الكاتب ودونها خلال مسيرته الحياتية ...؟ فأجاب: «كاتب السيرة هو كاتب سيرة، هي نوع منفصل بذاته عن الأنواع الأخرى، أدبية وغير أدبية، وفي التصنيف تقع السيرة، الذاتية والغيرية، ضمن النصوص غير الأدبية، لذا على كاتبها أن يكون حذرًا، وأن يكون صادقًا وموثّقًا لكل ما تدخّل في صوغ تفاصيل حياته، وعدم الاعتماد على البَوح، فكما سبق وذكرت، فللبوح قوالب كتابية مختلفة يمكنه اللجوء إليها، وهنا يجب أن يكون التوثيق والتأريخ أساسا، وألّا يكون التبرير للمواقف والأفكار والدفاع عنها أساسا، بل يجب على الكاتب أن يقنع المتلقّي بذكائه الخاص وأسلوبه الكتابي، وليس بالمباشِر».

وإلى أي حد يمكن أن يكون الكاتب صريحا وجريئا في تدوين سيرته الذاتية، وذكر الأحداث التي عايشها بدقة تامة في ظل القيود المجتمعية والتقاليد والدين..؟ فأجاب: «في مجتمعات العالم العربي، على اختلاف نوع الحرية الفكرية التي قد يكون وصلها أيٌّ من الكتّاب، يبقى اللاوعي الجمعي برأيي مؤثِّرا عند نسبة كبيرة منهم، فيبقى الكاتب حذرا لأنّ حسابات كثيرة يحسبها، حتّى وإن كان يكتب نصّا روائيّا، تبقى هذه الحسابات من ضمن ما يقيّد إبداعه، فكيف إذا بالسيرة! فنحن إن بدأنا مع «الأيام» لـ طه حسين، مرورا «بسيرة المنتهى» لواسيني الأعرج، ومؤخَّرا صدر الجزء الثاني من «روايتي لروايتي» لسحر خليفة، وقد قرأت الجزء الأول، نجد أن الأخيرين، وحتى لا يقع عليهما اللوم، صنّفا الأعمال على أنها «سيرة أدبية» أو «رواية سيرية»، وهذا برأيي أمر غير مبرَّر».ومما سألته، ماذا لو فكرت أن تكتب سيرتك الذاتية، أستكون «شخصية» جدا، أم ستكون عامة دون تفاصيل حياتك، أم فيها مزج ما بين التأريخ والذاتي ؟ وأجاب بقوله: «كتابة السيرة أمر كبير، وعلى أيّ كان إن أراد كتابة سيرته، أن يكون قد حقَّق ما هو مختلِف، وقدّم الجديد، ووضع بصمته بشكل فعليّ في أيّ مجال كان، وهذا ما أتمنّاه لنفسي طبعًا في مجال الأدب، ولكن يجب أن تكون السيرة سيرةً فعليّة، يكون الذاتيّ فيها أساسيًّا، من دون زيادات عنترية أو نقصان خوفًا من ضغوط المجتمع، ويأتي التاريخي فيها داعما، إن كان مؤثرا في الشخصيّ، فأن أقول إنّي حضرت حفلًا موسيقيًّا لمارسيل خليفة عام 2010، وأكتب في الأمر صفحتين أو ثلاثًا، من دون أن يكون الحفل عاملًا مؤثّرا لأمر حقّقته، فهذان حشو وتباهٍ مرفوضين بالنسبة إليّ. ولكن يبقى أنّ كتابة السيرة أمر يحتاج إلى ضبط عند البعض، وإلى دعمٍ عند كثيرين».

التجربة بقالب فنيّ

ويُعّرف الكاتب البحريني رسول درويش السيرة الروائية على أنها عملية تزاوجية بين فني السِّيرة الشخصية والرواية، وتعتمد كثيرًا على جانب المرجعيات التاريخية التي يعُاد تركيبها وصياغتها وفق معايير فنية سردية مختلفة، يغرق فيها الكاتب مع مرويِّه لدرجة التماهي، ويصبح فيها الراوي والروائي وجهين لعملة واحدة، وعليه يعمل الروائي لتحقيق تطلعات الراوي بمصداقية كبيرة دون أن يعُكرَ صفوه بإضافة ما لا ينُسَب إليه ويسيئ إلى سيرته الحقيقية، مع مراعاة الشّحن والتكثيف والتخييل، وكأنما يعاد طهي شخصية الراوي في المطبخ السردي، وعليه يمكن القول إن السيرة الروائية هي بوح مباشر لصاحب السيرة نفسه يقوم فيها الروائي بكتابة ذاته كما في «الأيام» لطه حسين، أو بوح غير مباشر يقوم فيه الروائي بكتابة ذات غيره كما في «موتٌ صغير» لمحـمد حسن علوان؛ وحينها يكتب الروائي بقلمه دون أن يظهر ذاته، ودون أن يتعالى على المرويّ عنه.

ويتابع درويش قائلا: إن «السيرة الروائية» تستمد عناصرها الأساسية من «الرواية» ومن «السيرة الذاتية»، أي أنها تنحت وجودها مجازيًّا بينهما، ولكن يدفعنا السياق للوقوف قبل كل شيء على ما يميز كليهما. فيرى فيليب لوجون بأنَّ «السيرة الذاتية هي سرد نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك بالتركيز على حياته الفردية وعلى تاريخه الشخصي» وأما الرواية فهي سرد نثري قصصي طويل تتسلسل فيها الأحداث على لسان شخصياتها الحقيقية أو الخيالية، ومن هنا توُلد السيرةُ الروائية بحيث يكون هناك تطابق بين المؤلف والراوي والشخصية بصورة ضمنية أو بتصريح واضح. ويؤكد درويش أنه لابد من التذكير في هذا المقام، أن الخوض في السيرة الروائية يوجب إظهار التجربة الذاتية الحقيقية في قالب فني متخيَّل، ومن ثم يجب أن نستبعد المطابقة الحرفية والفعلية بين الروائي وشخصيته الرئيسية المُنتجَة في عالمها الجديد؛ وعليه يصبح استثمار تلك الحقائق والوثائق (الخام) الواردة في النص واجبا، ولكن ضمن انزياحات يفرضها تداخل النصوص أو ما يُعرف بالتناص، وعليه يمكننا التأكيد على تداخل السيرة الذاتية مع الرواية، فمن يكتب مذكراته أو سيرته ينزح لاستخدام سرد روائي، ومن يكتب رواية ينزح تلقائيًّا لكتابة سيَر شخصياته؛ ولذلك قام الطرفان باستثمار الآخر بصورة جلية عبر الاقتباس والملاحقة.

وفي هذا السياق الأدبي، تولد العديد من المُشكلات والمعوقات عند التعاطي مع السيرة الروائية، وفيها تبرز قناعاتُ المتلقي أو القارئ نفسه، فهي قناعاتٌ فاعلة وذات أهمية قصوى في تقبل العمل أو رفضه، حيث يصعب القفز فوق الحقائق الواضحة والمسلمّات؛ فإن كانت الرواية مُتخيَّلة فإنّ السيرة واقعية، وما بين الخيال والواقع قد تتعاظم تلك الاختلافات؛ فهل يحقّ للروائي بعد ذلك أن يستثمر جانبه الشخصي ليغذي روايته؟ وهل يحق له التنكر والتمويه والتضليل بذريعة التخيل الروائي؟

ويشير درويش إلى أنه من هذا المنطلق، وُلد ضمنيًّا ما يعُرف بـ «ميثاق السيرة الذاتية»، والذي استلزم بدوره الإعلان أيضًا عن «الميثاق الروائي»، وهما ميثاقان أخلاقيان أدبيان في أصلهما، يمثلان العقد الذي يضبط مسار الكاتب المبدع، ومسار المتلقي الفطن، ويوجههما ناحية اعتبار النص رواية متخيلة، وهنا يقدم لوجون - في مصدره السابق - مظهرين لذلك الميثاق، أولهما إعلان عدم التطابق التام بين المؤلف والشخصية في الاسم (سيرة ذاتية باسم مستعار)، وثانيهما التصريح الفعلي بالتخييل (سيرة ذاتية باسم صريح).

وبالعودة إلى تاريخ أدب السيرة الروائية، نجد الأمثلة واضحة ومتعددة تقدم الكثير من النماذج للسير الروائية، وقد جاءت أغلبها (ذاتية) لتعين صاحبها على الانتشار، أو (غيرية) لتعين مؤلفها على الانطلاق، ومعه «زاد الغموض لأنها تخلق التباسا عندما تمثل شخصية المؤلف ضمن النص الروائي كشخصية فاعلة منتجة».

شغف القراء

حتى لا أقع في مطولات السرد الرقمي لعدد الأدباء والمشاهير ممن كتبوا السيرة الذاتية من عرب وأجانب وهم كثر في الجانبين، وقدموا للمكتبة الأدبية سيرا أدبية متميزة وحافلة بالتشويق الذي ينشده القارئ.

وبعيدا عن تصنيف النقاد وإشاراتهم الدلالية على تقييم المحتوى ما بين الذاتي والتاريخي والجريء والمتحفظ، وما بين صوت الراوي وصوت الكاتب والمتخيل الذي يمنح السيرة الذاتية بعض التشويق للقراء، تأخذ هذه الكتب حيزا لا بأس به من المبيعات واهتمام الناس بها، لأنها تشدهم بطريقة أو بأخرى لعوالم يبحثون عنها، ولأن القارئ مجبول بشغفه لمعرفة الجوانب المخفية دائما في حياة المشاهير مهما كانت مناصبهم أو مهامهم، ولهذا فإن كتب السيرة الذاتية ستبقى عقول القراء تهفو إليها لتشكل لهم زادا معرفيا وعمقا في الحكاية التي بها يشغفون. لا أعتقد أن أي محب للقراءة لم يقتنِ يوما ولو كتابا من كتب السيرة الذاتية وتلذذ بها، ولعل كتب السيرة التي تخص الكثير من المشاهير في السياسة أو الاقتصاد أو الفن والرياضة كانت محط اهتمام كبير، ولعلك أيها القارئ تتساءل، وهل يملك هؤلاء ناصية السرد لكي يكتبوا سيرهم الذاتية ببراعة وتقانة عالية..؟

بالتأكيد قد لا يجيدون السرد القصصي كما يتقنه أصحاب الصنعة من الأدباء، وربما يستعين الكثير منهم بأديب يصوغ له تفاصيل حياته التي دونها أو تحدث بها على شكل قصاصات، وهذا يحدث في الظل، ومثل هذه الوقائع موجودة ولكنها غالبا تبقى طي الكتمان، وما يهم القارئ أن يطلع على التفاصيل التي تهمه ويقرأها بشغف. وهنا أتوجه بالسؤال لكل قارئ، ما هو كتاب السيرة الذاتية الذي قرأته، وما الذي استهواك فيه من تفاصيل، وهل تستهويك الجرأة أم العقلانية في الطرح، أم البحث عن وقائع التاريخ والأحداث ما بين السطور؟