هل هيمنة الدولار مهددة ؟

12 فبراير 2023
12 فبراير 2023

ترجمة قاسم مكي -

هل يواجه الدولار الأمريكي خطر فقدان وضعه بوصفه العملة المهيمنة دوليا؟ ظللت أطالع بعض التكهنات الهائجة التي تذهب في هذا الاتجاه خلال الأسابيع القليلة الماضية. سأتحدث عن مصادر تلك التكهنات بعد قليل. لكن دعوني أولا أنوِّه بأن هذا السؤال ليس جديدا.

في الواقع سبق لي أن كتبت عنه مطوَّلا قبل سنوات قليلة. بعبارة سنوات قليلة أعني أربعة عقود. فقد نشرتُ ورقة بعنوان «الدور العالمي للدولار: النظرية والتوقعات» في عام 1984 استنتجت فيها أن نهاية هيمنة الدولار ممكنة لكنها ليست محتملة وأنها لن تغير شيئا إذا حدثت.

من الواضح أن العالم تغير كثيرا منذ كتابة تلك الورقة. كما حدثت بعض التطورات المهمة في نظرية العملات الدولية. لكن منطق « استمرار» هيمنة الدولار ظل كما هو طوال تلك السنوات وكذلك أسباب عدم إضفاء أهمية لتلك الهيمنة.

إذن من أين يأتي اللغط عن موت الدولار فجأة؟ يأتي بعضه من معتنقي فكرة التشفير. فالعملات المشفَّرة لا زالت تحظى بالدعاية على الرغم من أنها ظلت معنا منذ عدة سنوات ولم تلعب حتى الآن أي دور مهم في نشاطٍ مشروع. هذا إذا لم نذكر الحجم المدهش للفضائح التي أحاطت بها.

هذا الشهر تقدم تيد كروز (عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن الحزب الجمهوري) بمشروع قرار يطلب قبول ماكينات البيع الآلي في مبنى الكونجرس السداد بالعملاتِ المشفَّرة. ولا يزال أتباع عقيدة التشفير يزعمون أن عملة «البتكويِن» أو أيَّا من منافساتها ستحل محل الدولار في يوم ما.

الحديث عن نهاية سيادة الدولار ربما يعكس أيضا تصوّرا واسع الانتشار بأن الولايات المتحدة حوَّلت الدولار إلى «سلاح» لفرض عقوبات مالية على روسيا بعد غزوها أوكرانيا. دون الدخول في التفاصيل أعتقد أن هذا التصور خاطئ بشكل أساسي. ما حولناه إلى سلاح حقا هو «هيمنة» نيويورك ولندن كمركزين ماليين. وهي سيطرة تنحو إلى إخضاع كل شيء لإشرافهما ولوائحهما التنظيمية. لكن على أية حال الفكرة هي كما يبدو أن بعض البلدان ستتخلى عن الدولار لحماية نفسها من العقوبات إذا فعلت شيئا لا ترضى عنه أمريكا.

لذلك لدينا أخبار بأن الصين تحاول الترويج لتجارة النفط بعملة اليوان وروسيا وإيران تفكران في إيجاد عملة مشفرة مدعومة بالذهب. ولسبب ما تتحدث البرازيل والأرجنتين عن إيجاد عملة مشتركة على مثال اليورو وتلك فكرة رديئة حقا.

لتقييم كل هذا نحن بحاجة إلى الحديث عما يعنيه القول إن الدولار مهيمن. يعني ذلك أساسا أن الدولار بالنسبة للعملات الوطنية الأخرى مثل النقود عموما للأصول الأخرى.

فالنقود وسيلة للتبادل. إذا كنتَ نجَّارا تريد مواد بقالة فأنت لا تحاول أن تجد مركزا تجاريا يحتاج إلى صيانة أرفف خشبية. أنت تبيع خدماتك مقابل الدولارات وتستخدم الدولارات لشراء البيض. على نحو شبيه بذلك إذا أردت تحويل الروبية الهندية إلى الريال البرازيلي لا تحاول أن تجد شخصا لديه ريال برازيلي ويبحث عن روبية هندية. أنت تحول الروبية إلى دولارات وتستخدم الدولارات لشراء الريال البرازيل.

والنقود وحدة للحساب. الناس عادة يضعون الأسعار ويكتبون العقود التي تحدد المدفوعات بالدولار وليس بوحدات من أسهم شركة «تيسلا» مثلا. على ذات المنوال العديد من الأسعار والعقود الدولية (وليس كلها) تحدد بالدولار الأمريكي.

وأخيرا النقود يجب أن تكون إلى حد معقول مخزنا مستقرا للقيمة. أي مكانا تحفظ فيه ثروتك لبعض الوقت دون أن تتعرض فجأة لخطر فقدانها معظم قوتها الشرائية.

ما يميِّز العملات الدولية نوعا ما أنها تلعب هذه الأدوار للحكومات التي تتدخل في أسواق العملات (بربط قيمة عملاتها أحيانا بعملة بلد من البلدان والاحتفاظ بمخزون من العملة الأجنبية) كما تلعبها أيضا للقطاع الخاص.

إلى حد ما، رسخت هيمنة الدولار لأن هذه الأدوار تعزز نفسها بنفسها. فمن الأسهل إجراء المعاملات بالدولار بدلا من أية عملات أخرى لأن عددا كبيرا من الناس يستخدمون الدولار. وسهولة المعاملات من بين الأسباب التي تدفع الناس إلى استخدام الدولار. وكما أشار شارلس كِندِلبيرجر العظيم (أحد الاقتصاديين الكبار في القرن العشرين- المترجم) فإن دور الدولار كعملة عالمية مثل دور اللغة الإنجليزية كلغة عالمية.

على نحو شبيه بذلك، وحسبما يحاجج بحثٌ مشترك لكل من جِيتا جوبيناث كبيرة الاقتصاديين بصندوق النقد الدولي وجِيرِمي ستاين، تعزز الفَوْتَرَة الواسعة النطاق بالدولار (تسعير وتسوية المبيعات بالدولار) الطلبَ على الأصول الدولارية. وهذا ما يجعل اقتراض الدولار أرخص وبالتالي يشجع على الفوترة بالدولار.

إذن هل هنالك أي شيء مما يحدث الآن في العالم يمكنه حقا اقتلاع الدولار من موقعه القيادي؟

التعزيز الذاتي أحد أسباب هيمنة الدولار. لكن ضعوا في الاعتبار أنها أيضا ترتكز على بعض الأساسيات. فأمريكا لديها اقتصاد ضخم يتمتع بسوق ضخمة ومتطورة لرأس المال. وهي سوق في العادة ليس لديها ذلك النوع من ضوابط رأس المال الذي يمكن أن يجعل الناس غير قادرين على الحصول على أموالهم حين يريدون ذلك.

هذه الأساسيات تستبعد على الفور عملة اليوان الصينية كبديل للدولار لأن الصين لديها فعلا ضوابط على رأس المال ويبدو من غير المحتمل أن تتخلى عنها في أي وقت قريب.

إلى ذلك في حين لدى المستبدِّين سبب للخشية من احتمال مصادرة أمريكا أصولهم إذا غزوا جيرانهم أو قرروا قتل جماعة من رعيتهم إلا أن الجهات المستثمرة الخاصة لديها سبب أقوى بكثير للخوف من التصرفات العشوائية لنظام سلطوي لا يؤمن بحكم القانون.

لوهلة بدا وكأن اليورو قد يصبح منافسا جادا للدولار. فاقتصاد منطقة اليورو يمكن مقارنته باقتصادنا من ناحية الحجم والتطور. لكن منذ عام 2010 كانت أسواق رأس المال الأوروبية متشظية نوعا ما، حيث على سبيل المثال يتم تداول السندات الإيطالية بخصم للسندات الألمانية. لذلك تأجَّل تحدي اليورو للدولار ربما إلى ما لانهاية.

ما هو صحيح كما أشار باري آيخينجرين وزملاؤه أن البنوك المركزية ظلت تنوِّع موجوداتها من العملات ليس بتلك المنافسة للدولار ولكن بالعملات الأصغر.

هذا تطور مثير وسيكون من المفيد محاولة فهم سبب حدوثه لكن من الصعب أن يكون حدثا مزلزلا.

هيمنة الدولار تبدو لك مهمة إذا لم تفكر بشأنها كثيرا. لكن ستبدو أقل أهمية بكثير إذا فعلت ذلك. في الحقيقة وعموما كلما عرفتَ أكثر عن العملات العالمية اعتقدت أنها أقل أهمية.

مثلا أنا أسمع أقوالا بأن دور الدولار يمنح أمريكا قدرة فريدة على تحقيق عجوزات تجارية مستمرة. لكن يمكن أن يقال ذلك للأستراليين الذين يفعلون ذلك بالضبط وبكل «أريحية». كما ظللت أسمع بعض نظرياتِ المؤامرة مثل الزعم بأننا غزونا العراق لأن صدام حسين كان يخطط لوقف تسعير نفطه بالدولار. عفوا. لم يكن ذلك كذلك.

صحيح ربما يسمح الدور الخاص الذي يلعبه الدولار لأمريكا بالاقتراض بتكلفة أقل قليلا مما لو لم يكن وضعه كذلك. كما نحن في الواقع نحصل على قروض بفائدة صفرية من كمية كبيرة من العملة الورقية الأمريكية (من فئة المائة دولار أساسا) موجودة خارج البلاد والكثير منها لأغراض شريرة. لكن هذه الميزات في نهاية المطاف تافهة بالنسبة لاقتصاد بقيمة 26 تريليون دولار.

لذلك هيمنة الدولار ليست مهددة. وحتى إذا كانت مهددة لن يكون ذلك مُهِمَّا.

بول كروجمان حائز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2008 وكاتب رأي في صحيفة نيويورك تايمز.

ترجمة خاصة لـ عمان