منصة تجاوب والبناء على المنجز التنموي

27 سبتمبر 2025
27 سبتمبر 2025

في الأسابيع الفائتة كانت لي ثلاث تجارب مع المنصة الوطنية للمقترحات والشكاوى والبلاغات (تجاوب) في حالاتٍ واقعية مرتبطة ببعض الخدمات الحكومية استدعت تعاملي مع المنصة وتجربة عملياتها. والحقيقة أن ما يمكن قوله عن التجربة أنها (متميزة وملفتة)؛ ففي التجربة الأولى لم يتجاوز الوقت من عملية تقديم (البلاغ) حتى التواصل الهاتفي المباشر من المؤسسة ثلاث دقائق، وفي التجربة الثانية مع مؤسسة في قطاع خدمات لم يتجاوز الوقت منذ إنشاء (الاستفسار) حتى التعامل معه، وإيجاد الوسيلة المناسبة لحل المشكلة المرتبطة به، وإغلاق الطلب سوى تسع دقائق. وهي في تقديري (أوقات قياسية) بالنسبة لبعض أشكال العمليات الحكومية التي تتطلب في الوضع الطبيعي مراجعة المؤسسة، وتكبد عناء الطريق والاستفسار، وربما تكبد سلسلة الوصول إلى المعلومة، أو الموظف المناسب القائم على الخدمة عوضًا عن الظروف الأخرى المرتبطة بنوعية الوصول وقيوده. ما يمكن أن أصفه في هذه التجربة - رغم محدوديتها - أنها (نموذجية)، ويمكن القول إن مع تطورها مع الوقت يمكن أن تشكل إطارًا مرجعيًا معياريًا للمنصات الإلكترونية الخدمية الأخرى؛ فإلى جانب الأخذ في الاعتبار عامل (اللحظية/ الفورية) المرتبط بالوقت في التعامل مع ما يطرحُ على المنصة فهي أيضًا تخضع لمستوى عالٍ من الشفافية في تتبع سلسلة أو مسار الطلب؛ حيث تتيح للمستخدم معرفة آلية التعامل مع طلبه بوضوح، وليس فقط عند نقطة بداية ونهاية. وبحسب التجارب المحدودة التي تعاملت فيها مع المنصة؛ فإن إغلاق الطلب يكون مرتبطًا بإجراء واضح وشفاف من قبل الجهة ذات العلاقة. وما يلفت كذلك الإفصاح الدوري للمؤسسات عن حجم ونوعية الطلبات التي تعاملت معها بشكل دوري عبر حساباتها الإعلامية، ونسبة الإنجاز والاستجابة لما يطرح من مقترحات وشكاوى وبلاغات واستفسارات موجهة إليها عبر المنصة. 

مثل هذه المنصات من شأنها تطوير ثقة المجتمع في المؤسسات الحكومية - والعمل الحكومي عمومًا - خاصة عندما ترتبط بنظام مركزي لمراقبتها وتقييم التعامل معها. وهي كذلك توفر الكثير من الكُلف على المتعاملين مع الحكومة، خاصة في الخدمات التي يواجه فيها المتعامل أو المستخدم تحديات تقنية أو بشرية. وهي في الآن ذاته تسمح للمجتمع وعموم المتعاملين بإبداء الرأي بالمقترحات التي يعتقدون أنها تصوب أو تعزز بعض مسارات الخدمات والعمل الحكومي. وفي المجمل هي أداة إلى جانب المنصات الأخرى المستحدثة التي يمكن أن تنقل الحكومة خلال السنوات القادمة إلى نمط (الحكومة المرنة Flexible government)، ومن أهم ركائزها أمران أساسيان: الابتكار المستمر، ومحورة الخدمات حول المواطن. ما تحتاجه المرحلة المقبلة على مستوى منصة «تجاوب» هو تسويق أكبر لتجربة المنصة؛ لأن المعرفة بالمنصة وخدماتها ما زالت محدودة -كما تبين لي شخصيا وبالحديث مع أشخاص كثر من المحيط الاجتماعي- رغم سهولة التجربة، وتلك ميزة أخرى للمنصة تذكر بأن التركيز على تسهيل تجربة المستخدم يعتبر عنصرًا جذابًا في التعامل مع المنصة. 

على المستوى الوطني لا يمكن لأحد أن يغفل الجهد الواضح في ملف التحول الرقمي للحكومة، ومجمل الخدمات الميسرة بطرق إلكترونية أمام المتعاملين من أفراد ومؤسسات وقطاعات مختلفة، وعلى رأسها إيجاد بوابة موحدة للخدمات الحكومية. غير أن المرحلة المقبلة تتطلب في تقديرنا التركيز على ثلاث نقاط مهمة: أولها التركيز على مركزية ومحدودية المنصات بمعنى أن معيار الحكومة الإلكترونية ينبغي أن يكون في الكيفية التي نستطيع فيها دمج أكبر قدر من الوصول إلى الخدمات عبر منصة واحدة، وكيف يُسهَّل الوصول إلى خدمات متعددة عبر خدمة واحدة، ولكن ما يلاحظ أنه في بعض الأحيان هناك إطلاق لمنصات متعددة ضمن سياق حكومي واحد، وهنا من المهم التفكير بطريقة تكاملية ومركزية تسهل على المستخدمين من ناحية، وتختصر الموارد المطلوبة من ناحية، وتحقق تكاملية الخدمات الحكومية من ناحية ثالثة. النقطة الثانية ترتبط بفكرة (الحكومة الاستباقية Proactive government) وهي كيف تكون الحكومة سباقة في تقديم الخدمات قبل طلبها من الأفراد والمجتمع؛ هذه الخصيصة مرتبطة بتكامل البنية المعلوماتية حول الأفراد من مواطنين ومقيمين، وبتوفر قدر من البيانات الضخمة حول استخدامات الخدمات الحكومية، ومرتبطة كذلك بوضع كافة الخدمات الحكومية في وضعية (الافتراضي). فعلى سبيل المثال عند وصول الأبناء إلى سن الالتحاق بالصف الأول تكون الخدمة افتراضيًا قد أدخلت تسجيلهم إلى نظام التعليم المدرسي - ما لم يكن هناك حاجز يستدعي غير الوضع الافتراضي-، وكذلك عند وصول الفرد مثلًا إلى كافة شروط استحقاق خدمات الإسكان يكون قد سُجل افتراضيًا في الخدمات، وأرسلت له الإشعارات المناسبة لذلك، وكذا الأمر بالنسبة لبعض الخدمات الصحية. الوضع الافتراضي - إن صح تسميته - يجعل من عملية توقع الطلب، وتقدير الكلفة بالنسبة للخدمات الحكومية أكثر وضوحًا بالنسبة للحكومة، وبالنسبة للمجتمع؛ فهو يحقق عدالة التوزيع، والمساواة في الوصول إلى كافة الخدمات دون تحديات. 

النقطة الثالثة هي أن هذا التطوير المتحقق في رقمنة وتسهيل الخدمات الحكومية يمكن أن يمتد لإيجاد منصات أو آليات رقمية لتعزيز مشاركة المجتمع في صنع القرار التنموي. وذلك يمتد من إيجاد آليات تشركهم في اختيار واقتراح والتصويت على بعض مشروعات التنمية المحلية في المحافظات، وإمكانية إبداء الرأي في بعض مشروعات القوانين والسياسات ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي عبر منهجيات محددة ومركزية إلى المساهمة المستدامة بالمقترحات والأفكار على المستوى الاستراتيجي فيما يتعلق بالسياسات والقرارات والمشروعات التنموية. إن التحول الرقمي وتسهيل الخدمات الحكومية المقدمة للأفراد عبر مختلف المؤسسات هو بناء وتعزيز وتجويد للمنجز التنموي، وبلورة هذه الخدمات وتمحورها حول تجربة المواطن تحقق أثرًا أكبر، وتعزز مستويات الثقة والمسؤولية والمشاركة المجتمعية. 

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان