ما بعد الهشاشة الاستراتيجية

06 أبريل 2024
06 أبريل 2024

دخل العالم خلال العقدين الماضيين موجات متسارعة من ظهور ما يُعرف بـ «الهشاشة الاستراتيجية Strategic fragility»؛ وهي بشكل مبسط عدم قدرة الدول والمنظمات والمؤسسات ونماذج الأعمال المختلفة على القبض على حالة التخطيط الاستراتيجي لفترات أطول، وحاجتها الملحة إلى مراجعة اتجاهاتها وأهدافها ومؤشراتها الاستراتيجية في حدود دورية أقصر، والتحلي بأكبر قدر من المرونة في سياق عالمي يتّسم بسرعة المتغيّرات وتشابكها واتساع شبكة تأثيراتها الدقيقة. لذلك طوّر المنظورون في مجال الفكر الاستراتيجي موجات لوصف ما يشهده عالمنا الراهن من أوضاع استراتيجية؛ فقبل جائحة كورونا (كوفيد 19) ظهر توصيف (VUCA) في إشارة إلى السمات الأربع لحالة الاستراتيجية في العالم وهي: التقلب، وعدم اليقين، والتعقيد، والغموض، وبعد حلول الجائحة وتداعياتها على المواقف العامة وحالة الاستراتيجية وتزايد فقدان القدرة على القبض على مسار محددة للتخطيط ظهر مصطلح (BANI world) في إشارة للسمات الأربع المستجدة على عالمنا وهي: الهشاشة، والقلق، واللاخططية، وانعدام الفهم. هكذا يبدو العالم اليوم؛ لا مكان يمكن المراهنة عليه للخطط طويلة المدى ما لم تكن مرتكزة إلى مرونة عالية في التعديل والمراجعة، ولا مكان فيه للرؤية الأحادية ومنظومة الفكر الاستراتيجي المركزية ما لم تكن قادرة على احتضان التنوع والشمول وفهم المنظورات المتصارعة الأخرى، كما أنه لا مكان فيه للسيناريوهات المحدودة، ما لم تكن منفتحة على كل الاحتمالات ومتوالدة ويقابلها خطط تكيف متنوعة ومتعددة.

هناك مفاهيم ظهرت لمناقشة وبحث البدائل لهذه التحديات على المستوى الاستراتيجي، مثل التفكير المنظومي، واستراتيجيات التكيف، ومنظومات الإنذار المبكر من المخاطر المتعددة. ولكن تظل بعض التساؤلات قائمة: هل يتّجه العالم بعد الأحداث المفصلية في العقدين الماضيين إلى مزيد من القدرة على احتواء الاستراتيجية؟ أم تنتظرنا مزيد من الهشاشة الاستراتيجية؟ وهل الأدوات التي طوّرها العالم للتكيف مع عالم هش ومتقلب قادرة على إثبات ذاتها لأمد طويل من الزمن؟ ومن يمكن له اليوم القبض على الحالة الاستراتيجية والقدرة على التنبؤ الدقيق في عالم متعدد الأقطاب الفاعلة سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا ومعرفيا؟ في تقديري هناك ثلاث علامات تبعث على مزيد من القلق في عالمنا اليوم:

- البحث عن دور الإنسان: أين يمكن لثنائية الإنسان/ الحكمة أن تتمحور؛ خصوصًا في ظل انتقال الآلة من القيام بالمهمات الروتينية للإنسان إلى حالة ما أُسمّيه «حكمة الآلة»؛ ما يقوم به الذكاء الاصطناعي ومجمل التقنيات المتقدمة اليوم هو التحول إلى حالة التفكير، والتدرب على محاكاة الكثير من الأنماط البشرية. مؤكد أنه لا يمكن للآلة أن تكون بموازاة التفكير البشري وتركيبة العقل الإنساني إلا أننا نتحدث هنا عن الدور المنظومي. لم تعد المسألة مجرد فقدان وظائف لصالح الآلة، أو أتمتة مهمات بشرية لصالح الآلة. ولكن هي سؤال أي دور للإنسان في عالم مؤتمت؟ - التقدم الحضاري ليس بالضرورة يعد انعكاسًا لتهذيب الذات البشرية؛ فهناك ردات واسعة للعنف، ونصرة غير مفهومة لانتشار رقعة الصراع، واستماتة مقيتة في الهيمنة رغم كل شعارات التحضر والإنسانية والمفاهيم التي ولدتها عصبة الأمم. وهذا في حد ذاته تعقيد يضاف لتعقيدات العالم؛ ذلك أنه يعقّد عدم الفهم، والقدرة على التصوّر، ويخلق مسارات وقيودا جديدة على الفعل البشري والفعل الاستراتيجي على حد سواء.

- أما العلامة الثالثة فهي فكرة: هل نملك مستقبلنا؟ تصنع الدول اليوم رؤى استراتيجية طموحة، وتضع خططًا قصيرة ومتوسطة المدى تنافسية، لكنها تصطدم غالبًا في منتصفها بمساراتها، حيث إن الربط بالحركة العالمية يعرّض الكثير من برامجها ومؤشراتها لإعادة المراجعة والضبط والمواءمة والتفكير. في مقابل أن الأولويات والتطلعات من الداخل من الصعب القبض عليها، ومن الصعب تصنيفها وفرزها وقياس أولويتها.

تصبح بعض الخطط ظاهريا هي طموح دولة ما ولكنها في حقيقتها لا تملك العديد من عناصر القبض عليها.

إذن ما الذي يمكن فعله حيال ذلك؟ على المستوى الوطني أعتقد أنه من الضرورة تطوير منظومة الفكر الاستراتيجي، وهذه المنظومة تقوم على خمسة عناصر أساسية: أولها الحوار الديناميكي الحر والمستدام، وثانيها تفعيل دور البحث الاستراتيجي الحر عبر المؤسسات والبحث الاستراتيجي المستقل، وثالثها غرس الفكر الاستراتيجي في مختلف مستويات التعليم والتأهيل، ورابعها تفعيل التفكير المنظومي السريع والمتفاعل، وخامسها وجود منصات فاعلة لرصد الفكر الاستراتيجي. بإيجاز الفكر الاستراتيجي هو قدرتنا على الخروج من إطار القطاع/ التخصص للنظر عبر القطاعات/ التخصصات وفهم تأثير كل سياق على الآخر، وما قد يعترض جزئيا أو كليا قطاعا ما ويمتد احتمال تأثيره على القطاعات الأخرى. وهو ما يعني وجود قدرات تتحلى بهذا المنظور، ووجود حوارات دورية داعمة على شكل منتديات أو مؤتمرات أو جلسات مركزية تستوعب هذه الأصوات وتمكنها وتربطها بالعمل الوطني. بالإضافة إلى وجود منظومات تعليم وتأهيل تجعل الأفراد قادرين على فهم وتعلم التفاصيل التخصصية بذات قدرتهم على فهم وتعلم الرؤية الشمولية. وهنا نقترح بإيجاد منتدى وطني سنوي تحت مسمى «منتدى عُمان للفكر الاستراتيجي»، بحيث يكون هذا المنتدى مركزًا على التطورات والتغيرات والتوقعات المحتملة على قطاعات التنمية والعمل الوطني في عُمان، ويقترح التدابير المباشرة للقضايا والمخاطر المحتملة، ويسلط في الآن ذاته الضوء على الفرص غير المنظورة التي يمكن للعمل الوطني الاشتغال عليها.

كما يراجع بشكل متعدد المنظورات الأولويات الوطنية والمستهدفات القطاعية ويقترح عبر رؤى مؤسسات ومختصين في قطاعات مختلفة آليات تطوير تلك الأولويات وتعديلها، بحيث يجمع منظرين ومتمرسين عالميين وإقليميين ومحليين قادرين على هذه الرؤية الشمولية. والأهم أن يتم التعامل مع مخرجاته بصورة جادة وعملية، يبنى عليها في مختلف آليات العمل، وتكون له أمانة تتبع تلك المخرجات وتنقل المعرفة إلى المؤسسات الوطنية، وهو ما سيمكن في تقديرنا من احتواء الهشاشة الاستراتيجية إلى حد ما، والقدرة على إيجاد آليات تكيف ومرونة لخططنا الوطنية، وتعزيز قدرتنا على احتواء المخاطر، وإكساب مسارات العمل الوطني ديمومة أكبر وفاعلية في عالم هش ومتقلب.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان