عن مقولة "أفضل الممارسات" ومحدداتها
في مداخلة إذاعية لي عبر إحدى الإذاعات المحلية، عرجت إلى ذكر عبارة "الأخذ بأفضل الممارسات العالمية". استوقفني المذيع بالاستفهام حول تكرار هذه العبارة في عدة مواضع وسياقات استراتيجية؛ خصوصًا مع مجمل التشريعات والقوانين التي تمت مناقشتها في الشأن المحلي خلال الأشهر الفائتة. في الواقع – وعلى أهميتها – يعتقد البعض أن مسألة "الأخذ بأفضل الممارسات" أصبحت "لزمة" (عامة) تصاحب بعض المشروعات والقوانين وعمليات التحديث والتنظيم، ومجمل أشكال العمل الاستراتيجي. وقد يكون ذلك في الطريقة التي تذكر فيها هذه العبارة، أو الوسيلة التي تطرح فيها، أو جمهور المتلقين لها. أو قد تكون في ذكرها على عمومها دون التفصيل في ماهيتها وأهميتها. أما على المستوى الاستراتيجي فإن ما يُعرف بـ "المقارنات المعيارية" أو "Benchmarking" يعتبر أحد أهم خطوات التأطير الاستراتيجي سواء للمشروعات الاستراتيجية، أو للتشريعات والقوانين واللوائح، أو للتنظيمات، أو للخطط الاستراتيجية، كما هو الحال كذلك للمنتجات والخدمات. غير أن هنالك عتبتين أساسيتين: الأولى أن هذه العملية هي ملازمة في الغالب لبيئات (السوق)؛ أي لتلك الشركات والمؤسسات التي تسعى إلى تقديم خدمات أو منتجات، أو لتعزيز وجودها في خارطة السوق استنادًا إلى المجال الذي تعمل فيه، وبالتالي فإن عملية "المقارنة المعيارية" تمكنها من دراسة وتحليل (البيئة التنافسية)، وطرح أسئلة دقيقة حول آفاق النجاح والفشل بالنسبة لبقية الشركات أو المؤسسات التي تعمل في ذات المجال. كأن تقوم بطرح الأسئلة التالية: لماذا استطاعت المؤسسة (س) الوصول إلى المستهلكين في المنطقة الفلانية؟ أو لماذا فشلت المؤسسة (ص) في تحقيق عوائد على استثماراتها رغم ضخامة تلك الاستثمارات؟ في هذه الحالة تمكن عملية الـ "Benchmarking" المؤسسات من بناء وتطوير نماذج الأعمال المتكاملة عبر فهم الفجوات، والمزايا التنافسية، والميزة النسبية، وحاجيات السوق وتقلباته قياسًا بدائرة المنافسين الموجودين في ذات الحقل والسوق.
أما العتبة الثانية وهي الأهم: وهي كيف يمكن أن تكون "المقارنة المعيارية" (معيارية) فعلًا؟ بمعنى: هل هناك علم يقف خلف ذلك أو كما هو التعبير الإنجليزي الشائع "Is there science behind it?" والواقع أن المسألة حينما تتعلق بالبيئات التجارية فإن هناك الكثير من الأدلة والنظريات والطروحات التي قدمت لتشخيص ذلك. منها ما يعرف بنظرية المحيط الأزرق Blue ocean ونظرية الابتكار والابتكار التخريبي Innovation and Disruptive Innovation Theories وغيرها، وقد ساهمت هذه الطروحات في وضع مسارات عملية متجددة لتشخيص أفضل الممارسات والاستفادة منها أو التعامل معها على مستوى عمليات السوق. ولكن على مستوى الحكومات تبدو المسألة أكثر حساسية وتعقيدًا حين نريد ضبط تلك المعيارية؛ ذلك أن (منتج) الحكومات في الغالب هو منتج (غير مخصص)؛ بمعنى أنه يتلامس مع المجتمعات بطيفها الواسع، كما أنه أيضًا منتج يفترض به الاهتمام بتحقيق الاحتياجات القصوى داخل الدولة، قبل التفكير في عامل التنافسية الخارجية. ومن هنا فإن النظر إلى الممارسات الفضلى سواء في سن القوانين، أو تصميم الخدمات، أو وضع البرامج الاستراتيجية، أو وضع الرؤى والاستراتيجيات يحتمل على كل حكومة أن تخلق أسئلتها ونموذجها الخاص الذي تراعي فيه اعتباراتها فيما يتعلق بالاستفادة من التجارب المثلى. فإذا ما كان الحديث عن الشق الاقتصادي فإن من الاعتبارات التي يمكن النظر إليها حين المقارنة المعيارية اعتبار "حجم الاقتصاد"، و "تاريخية الاقتصاد"، و "اعتمادية الاقتصادية" عوضًا عن متانته وطبيعة الأنشطة الانتاجية والموارد الطبيعية التي يستند إليها، وتاريخية إدارته وغيرها من الاعتبارات التي تتخلل استخلاص الممارسة/ الممارسات الفضلى ومحاولة تبيئتها أو نقلها أو حتى الاسترشاد بها. وعلى مستوى العمل الاستراتيجي الذي يتصل بالجانب الاجتماعي فإن العملية تكون كذلك أكثر حساسية؛ ذلك أن اعتبارات التركيبة الثقافية والاجتماعية والسلوكية تمتد في تلك النماذج، وتشكل بناءها الكلي، ويصبح بالتالي مسألة فهم (الممارسة الفضلى) ضمن سياق مجتمعي نشأت فيه، وله خصوصيته الثقافية والاجتماعية أمرًا مركبًا. إلا أن هذا لا يعفي كله من ضرورة تتبع أفضل الممارسات على كافة الأصعدة. فتلك تقدم عتبات يمكن تداركها لصانع القرار الاستراتيجي، وأفكار يمكن تطويرها ومواءمتها بشكل منهجي مع ما يتطلبه السياق العام في الدولة، كما أنها توجز بعض العتبات فيما يتعلق بالتعامل مع العراقيل والتحديات التي طرأت على مشروع استراتيجي معين، أو في تنفيذ وسريان قانون ما، أو في وضع خطة استراتيجية محكمة.
نرى هنا بأهمية أن تقوم المؤسسات المعنية بالشأن الاستراتيجي بإصدار بعض الأدلة الوطنية حول مسألة تشخيص واستخلاص الممارسات الفضلى، بحيث تبنى تلك الأدلة على نهج علمي، يؤسس لخطوات تطبيقية وعملية في الطريقة التي يمكن من خلالها تحليل الممارسات الفضلى، سواء في إعداد مشروعات القوانين، أو البرامج الاستراتيجية، أو وضع الخطط والاستراتيجية. نعتقد أن مثل هذه الأدلة يمكن أن تنبه إلى قائمة الأسئلة الرئيسية التي يمكن طرحها في تحليل وتناول تلك التجارب، بالإضافة إلى قائمة الاعتبارات المحلية (الوطنية) التي يمكن التنبه إليها في استخلاص الممارسة. ستساعد مثل هذه الأدلة صناع السياسات والقرار الاستراتيجي في بناء نهج علمي للتعاطي مع الممارسات الفضلى، يمكن لاحقًا من فهم تموضع (القانون – السياسة – القرار – المشروع – الخطة) في محيطه الإقليمي والدولي. وفي فهم ما يمكن أن يضيفه حقًا وينافس به في محيطه. ويمكن أن تتضمن هذه الأدلة أدوات منهجية كذلك تساعد القائم بصنع القرار على تحديد الفجوات الأساسية في الموضوع (المحلي) ومحاولة كيف تعاملت التجارب الدولية المختلفة معه من منظور عالمي. عوضًا عن الطرق التي يمكن أن تساعد صانع القرار في أن يصوغ تجربة محلية خالصة دون أن تكون بالضرورة مستندة إلى نموذج بعينه. أو مسترشدة بتجربة بعينها حسب ما يشير إليه تحليل الممارسات والتجارب التي تعرض إليها.
