عندما تُضرب الحرية في أخص خصائصها!

08 مايو 2024
08 مايو 2024

عندما بدأ الاحتكاك بالعالم الغربي في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، من خلال البعثات الطلابية من البلاد العربية، كانت الفجوة كبيرة بيننا وبين الغرب في المجال الفكري النهضوي والتقدم العلمي، والانفتاح السياسي وجوانب من حرية التعبير والنهضة العمرانية ومتطلباتها ووسائل حركة السير وغيرها من الوسائل، التي لو تم قياسها بالواقع العربي آنذاك، لكان الأمر مفارقة كبيرة في أفضليتهم فيما يعيشون فيه من تقدم ونهضة. وانبهر هؤلاء الطلاب مما حصل للغرب من قفزات علمية وتداول سلمي للسلطة، وحريات عامة في واقعهم السياسي والاقتصادي. والغرب كان يقدم هذه البعثات، وكان مستعمرًا للكثير من هذه الدول، لذلك لم يكتفِ بالاستعمار العسكري المفروض بالقوة العسكرية، لكنه كان يسعى أحيانًا إما بالترغيب وأحيانًا بالترهيب، وتحويل هذه الدول المستعمرة أو التي تحت الحماية أو الوصاية ـ كما أشرنا آنفًا ـ إلى تغيير مناهجها وثقافتها وأيضًا حتى في مجال الدين، من خلال إرسال الإرساليات التبشيرية بالتعليم الخاص، وبناء المستشفيات وغيرها من وسائل التبشير، والهدف ربطها ببلدان دول الغرب كتابعة لها، وفق إمكانياتها وقدراتها من الثروات أو المواقع الإستراتيجية.

لذلك حصل التأثير لبعض هؤلاء الطلبة من الشباب، وكتبوا في ذلك يريدون أن نرتبط بالغرب تماما دون حرج أو رفض، ومن هؤلاء الذين تأثروا الكاتب أديب إسحاق، وفرح انطون، وعبدالله العروي، وطه حسين وغيرهم، وقد طالب طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) بالتغريب، وربط مصر وبعض البلاد المستعمرة بالغرب لكي تعيش كما كانوا يعيشون!. ومما قاله دكتور طه بالنص: إن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي واحدة فذّة ليس فيها تعدد، وهي: «أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحب منها وما يُكره، ما يُحمد منها وما يُعاب». لكن طه حسين، تراجع عن هذه الفكرة التغريبية، بعد انتقادات ومحاورات وجهت له، من مفكرين وكتاب من مصر ومن خارجها، وكتب العديد من المؤلفات الفكرية / الإسلامية، ومنها كتابه الشهير(على هامش السيرة)،وكتاب(مرآة الإسلام)، وكتاب (الشيخان:أبوبكر وعمر)،وكتاب (الوعد الحق)،وغيرها من المؤلفات. والذي أقصده أن الغرب الذي جعل من نفسه متميزًا في الفكر ومتقدمًا في العلم، وداعيًا للتنوير، يريد أن يتبعه الجميع فيما يعيشه ويتبناه ويسير فيه، لكن عندما أتته الظروف الفاحصة لما يقوله باختبار الأفعال بعد الأقوال، (نكص على عقبيه)، في جوانب كثيرة، وتراجع عما يقوله ويتباهى له، من حرية التعبير، والحق في الاختلاف، وقبول التعدد والتنوع، وهذا حدث من العديد من دول الغرب في ممارسات كثيرة لا نستطيع حصرها في هذه المقالة، ومنها أن فرنسا التي تسمى نفسها (بلد النور والحرية)! منها أنها أكثر الدول الغربية قمعًا ومناكفة للحرية وتراجعا عن قبول الاختلاف فيما يسمح به في نظمهم القانونية خاصة بالنسبة للمسلمين.

منها ما حصل للفلسطينيين من انتهاكات لحق الحياة والحرية في الاستقلال والكرامة الإنسانية، بل تم تجاوز هذا إلى الإبادة الجماعية، كما عرف العالم كله بما جرى ويجري في غزة، ومع ذلك تشبث الغرب بمقولة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؟! وأي دفاع عن النفس، وهذا الكيان الغاصب احتل أرض فلسطين وطرد أهلها؟ فكيف تتم هذا المقاييس الظالمة: بين ظالم ومظلوم، بين محتل، ومن وقع عليه الاحتلال، فهذه المعايير الغربية، تصدر من هذا الديمقراطي/ الليبرالي. فالغرب الذي لم يكف عن مطالبته للدول الأخرى بالحريات العامة، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير بكل وسائله، أصبح يخالف ذلك ويتخذ من الإجراءات التي تناقض أفعاله أقواله، فقال بعضهم: إن الغرب يضع الحريات عمومًا وحرية التعبير لنفسه ولشعوبهم الغربية، بحكم الدساتير والحقوق الممنوحة لهم، لكنها لا تتعداها للشعوب الأخرى ؟! ومع أن هذا القول وهذا التقييم لا يقنع أحدًا، فكلمة الحرية الإنسانية لا تتجزأ، ذلك أن إنسانية الإنسان تستحق هذه الكرامة لكل الشعوب بغض النظر فكرهم وأديانهم وثقافاتهم، والغرب نفسه هو الذي وضع المواثيق والدساتير، وقال: إنها لكل البشرية دون استثناء، لكن هذا لم يتم بالصورة رسمت عند كل شعوب العالم، وظهرت الكثير من التجاوزات الكبيرة، التي لا حصرها، وقد أشرت في كتابات سابقة لمثل بعض هذه التجاوزات لكنها لم تكن بتلك الضخامة ، كما حصل بعد السابع من أكتوبر العام الماضي.

فبعدما بدأ الحراك الطلابي في الجامعات الغربية كالولايات المتحدة وغيرها، وما تزال مستمرة، فوجئت النخب السياسية والفكرية في الغرب بهذا التعاطف الكبير، وهذا يعني أن الأجيال الجديدة من طلبة الجامعات الغربية، كشفت النفاق السياسي والفكري، والتناقضات التي يمارسها في التعاطي، مع القضية الإنسانية في غزة، سيما ما يحدث من إبادة جماعية، وهذا ما كانت تسكت عنه بعض الدوائر الغربية، وكانت، لا تظهره للرأي، حتى حقق واقعًا، بعد الاعتصامات، وما جرى لهؤلاء الشباب من قمع واعتقال واتهام بمعاداة السامية، مع أن العرب ساميون أيضًا!.

لكن الأمر لم يجر كما كان بعضنا يتوقع أو يتوهم، لذلك كما قال الكاتب المغربي لحسن حداد: «ابتلع الزعماء ورواد الرأي والمؤثرون الغربيون ألسنتهم واختاروا السكوت عن جريمة إبادة يتم تصويرها من طرف الضحايا أنفسهم (للمرة الأولى في التاريخ)، بل ودعَموا وساندوا وصفقوا لِمَنْ يقترف هذه الجريمة في واضحة النهار، أي الحكومة الإسرائيلية وجيشها المؤيَّدَون بدورهم من طرف رأي عام إسرائيلي مصمم على الانتقام والقتل». ولا شك أن ما جرى للطلاب في الجامعات الغربية، كشف بجلاء أن الكثير من الآراء والأقوال عن الحريات العامة وحقوق الإنسان التي يوصف الغرب أن العالم الثالث هو الذي يجري فيه إهدار هذه الحقوق!. لكن حدث عكس ما يقال، فقد شابها الكثير من الممارسات التي تخالف حتى نصوص وضعت من العالم الغربي، وبدأ النكوص عنها، مجاراة لما تفعله إسرائيل في غزة وفلسطين عمومًا، عندما رأى الطلاب أن الحقوق الإنسانية تهدر بدون حق، ودون أن تقف دولهم مع ما تدعيه من أقوال عن الاعتداء على الحقوق الإنسانية التي تستحق الوقوف معها أصحابها والدفاع عنهم، وخاصة ما شاهدوه واطلعوا عليه من ممارسات تقشعر منها الأبدان، ومع ذلك لا تزال بعض هذه الدول لم تقف الوقفة الإنسانية كما تتطلبها دساتيرهم وقيمهم كما يقولون يدعون أنهم الأكثر والأفضل في تحقيق كل الحقوق، كما تسمى بالأنسنة!.