حرب الجنرالين .. وخيارات المثقف

08 مايو 2024
08 مايو 2024

قد يبدو مفهومًا الموقف الأخلاقي للمثقف من الحرب بصورة عامة، فالمثقف عادة - وبخاصة المبدع - من حيث كونه شخصًا ذا نزعة إنسانية لا يخفي انحيازه للسلام.

لكن ثمة حروبًا تعكس طبيعتها السياسية واقعًا ملتبسًا، كالحرب الدائرة اليوم في السودان، منذ أكثر من عام؛ بين ما كان يسمى طرفي المكون العسكري (الجيش والدعم السريع) فالحيرة التي يقف أمامها المتابع لهذه الحرب تتمثل في استعصاء أي مقاربة لفهمها منذ بدايتها الأولى - دون التعمق في حيثياتها المعقدة- بحيث يمكن القول إن ما يجعل من هذه الحرب لوهلة تستعصي عن فهم أسبابها الموضوعية أنها وقعت بين جنرالين كانا يمثلان مكونا عسكريا واحدًا وقاما سويةً بانقلاب على حكومة الثورة المدنية للمرحلة الانتقالية برئاسة د.عبدالله حمدوك (تلك الثورة التي أطاحت بالرئيس المعزول عمر البشير في عام ٢٠١٩) بل كان أحد الجنرالين المتحاربين (محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي قائد قوات الدعم السريع ) نائبًا للآخر (عبد الفتاح البرهان - قائد الجيش) ما يعني لكل متابع متأمل في طبيعة هذه الحرب أن هناك سياقا واحدا لا يمكن لأي سياق سواه أن يضعها في إطار قابل للفهم، ولكننا متى ما تفحصنا ذلك السياق سنجد أنفسنا لا محالة أمام واقع سياسوي لا يمكن أن تدلنا وقائعه الظاهرة التي سبقت الحرب إلا إلى أن ثمة شيئا ما حدث في الأثناء بين الفريقين العسكريين والجنرالين وتسبب في هذه الحرب.

وإذا ما عرفنا مثلا أن الفريقين كليهما (الجيش والدعم السريع) كانا خاضعين لسلطة نظام سياسي إسلاموي انقلب على السلطة السياسية في السودان بانقلاب عسكري على حكومة ديمقراطية منتخبة في العام ،١٩٨٩ وإذا ما عرفنا مدى الخراب الذي ألحقه ذلك النظام الانقلابي بجهاز الدولة العام - ومنها مؤسسة الجيش - خلال ٣٠ عاما من الحكم العسكري الفاسد، سندرك أننا في الواقع حيال حرب ذات طبيعة عبثية، لكن في الوقت نفسه سنعرف كذلك أن الذي كان سببًا في نجاح انقلاب الجنرالين (البرهان وحميدتي) على حكومة الثورة وإجهاض المرحلة الانتقالية في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ هو أن المدنيين العزل من قادة حكومة الثورة ولأنهم لا يملكون جيوشا ولا أسلحة٣٠٠ لذا تمكن جنرالا الحرب - آنذاك - بسهولة من إيداعهم السجون دون أن تقع حرب كالتي نشهدها اليوم.

اليوم تبين بوضوح أن السبب في انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ كان محاولة لإجهاض المرحلة الانتقالية وعودة النظام القديم إلى السلطة عبر الجيش، لكن الخلاف الذي طرأ بين قائد الدعم السريع الجنرال حميدتي وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان هو أن الأول (حميدتي) أدرك بعد الانقلاب بيومين أن هدف الانقلاب؛ عودة عناصر النظام القديم إلى الحكم مرة أخرى، لكن مع ذلك لم تقم الحرب حينها - أي بعد الانقلاب مباشرة -؛ لأن الشارع الثوري والتظاهرات المتواصلة طوال عام كامل من الانقلاب، وحصار المجتمع الدولي للانقلاب جعل الانقلابيين يفشلون في تعيين رئيس للوزراء وتكوين حكومة يرضى عنها الشعب الثائر، مما اضطر قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان - تحت تلك الضغوط - إلى محاولة التفافية لالتقاط الأنفاس والقبول بالاتفاق الإطاري - الذي رعته الرباعية الدولية (أمريكا - بريطانيا - المملكة العربية السعودية - الإمارات) والذي كان اتفاقا - حال تطبيق بنوده - يمكنه أن يضع أسس سياسية سليمة للخروج من المأزق الذي جلبه الانقلاب على مصير السودان.

يوم توقيع الاتفاق الإطاري في ٥ ديسمبر ٢٠٢٢ (وكان قد وقع عليه كل من الجيش والدعم السريع وقوى الحرية والتغيير وأحزاب سودانية أخرى) اعتذر قائد الدعم السريع «حميدتي» للشعب السوداني عن الانقلاب ووصفه بالخطأ، أما قائد الجيش عبد الفتاح البرهان فكان قد صرح لقناة سكاي نيوز عربية في نفس يوم توقيع الاتفاق الإطاري بأن انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ كان خطوة في الاتجاه الصحيح !

ذكرنا في بداية المقال طبيعة الموقف الأخلاقي للمثقف من الحرب، ونعود لنتساءل؛ حين تقف مجموعة من المثقفين السودانيين مع استمرار الحرب دعما لأحد طرفيها -فيما لا يخفى على تلك المجموعة ذلك السياق الذي شرحنا فيه طبيعة حرب الجنرالين وعبثيتها، من ناحية، وحقيقة أن ٣٠ عاما من ممارسات حكم نظام الإسلام السياسي قد تسببت في تسييس أجهزة الدولة العامة، ومنها مؤسسة الجيش إلى الحد الذي جعل من قائد ذلك الجيش - البشير - خلال ثلاثين عاما يعمل على تكوين مليشيات موازية للجيش فأي قيمة أخلاقية وجيهة هنا لموقف المثقف مع استمرار حرب كان طرفاها حتى الأمس القريب جسمًا برأسين، وحين اختلف الرأسان كان التعبير عن الخلاف بينهما هو هذه الحرب العبثية؟