دعوة متجددة إلى الإصلاح العربي

20 سبتمبر 2025
20 سبتمبر 2025

لعلّي لو حاولت أن أحصي ما كُتبَ عن أمنيات الإصلاح العربي ومشروعاته المتعددة لأصبتُ بالدهشة من قدم عهد هذه الصيحات والأفكار المسعفة التي تنطلق من مرحلة تحديد الأزمة والتهاباتها المزمنة الناتجة منها وتتجه في مرحلة أعلى في اقتراح العلاج وآلية استعماله؛ فنجد ذلك في مشروعات فكرية جادة منها مشروع مالك بن نبي ودعوته إلى النهضة القرآنية وإعادة بناء ظاهرتها، ومشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي بفروعه الأربعة التي خلص فيها إلى كثير من الأفكار منها ضرورة تطبيق «العقلانية النقدية»، وتدافع جورج طرابيشي مع أطروحات الجابري عبر مشروعه الإصلاحي «نقد»، «نقد العقل العربي» الذي أسفر عن تبيانه لموضع الأزمة الحضارية العربية في القطيعة التاريخية مع مشروع التنوير ومساره، ولا يمكن أن نغفل عن مشروع طه عبدالرحمن الذي تبنّى ضرورة إحياء الأركان الأخلاقية الإسلامية باعتبارها شرطا للحضارة، وكذلك مشروعات الإصلاح الديني والتربوي عند كلٍّ من محمد عبده ورشيد رضا والإصلاح السياسي والفكري عند جمال الدين الأفغاني.

بجانب ما يمكن أن نستفيد منه من التجارب والمشروعات الإصلاحية عند أمثال هؤلاء المفكرين المصلحين؛ فسبق لي الحديث في هذا الشأن بشيء من الشجون في محاولة إلى استنفار الوعي العربي وإعادة قدح شرارة حضارته المفقودة، ولا أدّعي أنني أملك مفاتيح الحلول ومعاول البناء الحضاري بقدر ما يدّب في خاطري من أفكار تتولد من قراءتي للتجارب الإصلاحية، ولم أكن أرى ما قدمته وأواصل تقديمه من طرح يخص هذه القضية بأنه ذو تجديد في النقد وبسط للحلول، ولكنه فيضٌ من غيض يرتبط بالشعور بالأسى على واقعنا العربي الحالي الذي لم نكتفِ أن نفقد فيه حلولنا العسكرية لمواجهة المحتل والمعتدي، وإنما فقدنا أيضا أبسط متطلبات الدفاع عن الكرامة عبر الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية؛ ليستأنس العرب ومعهم عموم المسلمين بمواصلة لغة الاحتجاج والتنديد «بأشد العبارات»؛ ليتوهم من يتوهم أن ذلك كافيا لإرعاب العدو الصهيوني الذي آثر أن يُظهر سخريته «بأشد العبارات» في وسائل إعلامه المكتوبة والمرئية دون أيّ مراعاة لمشاعر العرب والمسلمين الذين تكبّدوا مشقة التنديد المستمر وتكاليفها الباهظة.

ولتتسع صدور العرب بتذكيرهم بحالنا المؤلم، ولكنه واقع لا ضرورة لنخفيه، وكذلك عساه أن يحفّزَ منظومتي العقلية إلى محاولة أخرى في قراءة الواقع العربي وفهم جذور مشكلته التي لا أراها تختلف كثيرا عما شخّصه بعضُ مفكّري العرب أمثال مَنْ ذكرتُهم آنفًا، ولكن ما استجد أننا في أزمة وجودية غير مسبوقة تتمثّل في فرض الكيان الصهيوني شروطه السياسية والعسكرية على جميع المنطقة دون استثناء؛ فيخبرنا التاريخُ الحديث أن العرب وجيوشهم على الأقل في زمن قريب أَبَوْا أن يصلوا إلى حالة الاكتفاء بالتنديد والشجب، ولكنهم آثروا أن يخوضوا حروبهم -رغم ما لحقهم من هزائم- مثل 1948 و 1956 و 1967 و 1973، ولعلّ ثمّة من يراها حروبا عبثية لم يجنِ العربُ منها سوى صناعة سردية «جيش إسرائيل الذي لا يُهزم» وتوريدها إلى أجيال قادمة؛ فتأثر بها العربُ وزرعت في داخلهم الرهبة وخوف المواجهة، ورغم واقعية هذا التفسير؛ فإننا نعتبر تلك المحاولات العسكرية حماسةً تستحق التقدير، وتوحي بأن للعرب كرامة ومسؤولية. لست في موضع المحلل والناقد، وإنما أكون أقرب للمعبّر عن رأيه فيما يخص تجديد الدعوة إلى الإصلاح العربي بأسرع ما يمكن قبل فوات الأوان، وأحرّض نفسي وغيري على إعادة قراءة ما انتهى إليه مفكرون عرب ومسلمون، ومما يبرز على ساحة الحياة الحاضرة ومعتركاتها الملحوظة.

لا أرى للإصلاح قيمة دون أن نتحسس الألم وندرك جذوره، ومن منطلق التأويل النفسي -الفردي والمجتمعي- فإن المجتمعات العربية متأثرة بعدد من العوامل ذات البعد النفسي السلبي الذي ساهم في سلب مقدراتها القيميّة والأخلاقية؛ فترسّخ في داخلها -بعد موجات من التأثير الاستعماري الذي عصف بعدد كبير من الدول العربية- مبدأ الانهزامية وتهميش الهُوية الثقافية، وتوالي صعود هذا النوع من الانهزامية الداخلية بعد حقبة استعمارية شملت عددا من الأقاليم العربية وبعد هزائم العرب في معارك مع الاحتلال الإسرائيلي؛ فكان بمثابة العامل التراجعي المركّب الذي أربك قيمًا مهمة وزعزعها مثل قيمة الكرامة والحرية والعدالة، وهنا نحتاج إلى إعادة ترسيخ وتطبيق واسع لقيمة «العدالة» التي نراها قيمة تنتفي منها النسبية؛ فإنها أقرب إلى أن نصفها بجذر القيم الإنسانية، وهذا ما يرجعنا إلى مبدأ لا يكاد ينفك من أيّ حضارة إنسانية يرتبط في مجمله بقيمة العدالة نفسها؛ فتكاد تكون عماد صعود الحضارات ونزولها، ونشير بذلك إلى أهم ما يمكن للفلسفة السياسية أن تخلص إليه المتمثّل في «الاستبداد» الذي ينطلق من أعلى هرم الحضارة و«الفوضى» الناتجة من أسفل الهرم الحضاري -وهذه فائدة أخذتها من الدكتور محمد المختار الشنقيطي وكتابه «الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية»-، وكذلك على مذهب الشهرستاني كما يؤكده في كتابه «الملل والنحل» فإن أزمة الحضارة الإسلامية منبعها «سيف الإمام» التي تعكس رؤية الشهرستاني بأن أزمةَ الحضارة الإسلامية أزمةٌ سياسيةٌ في صميمها تتمثّل في غلبة عنصر الفوضى أو وجود الاستبداد وكلاهما في غالب الأحوال يعملان معا؛ فكانت -الأزمة السياسية- سببا في نخر مقومات الحضارة الإسلامية بعمومها -بما فيها خنجرها الأهم «العرب»- وجرّ الاستعمار وتوفير البيئة الخصبة لولادة الأزمة الثقافية والاقتصادية.

حال إقرارنا أن أزمتنا سياسية من حيثُ الجوهر؛ فإننا بحاجة إلى تفعيل عاجل لقيمٍ ساميةٍ مثل الحرية -بنسبيةٍ غير طاغية وضارة- والعدالة، ومآل ذلك تهيئة ظروف سياسية تكبح طفرات الاستبداد السياسي، وفي المقابل تُضبط مظاهر الفوضى التي ليس بالضرورة مصدرها داخليا وإنما يكمن وجود الخطر الخارجي -وأقرب مثال إلى ما أُطلقَ عليه بثورات الربيع العربي التي فاقم أزمتها عامل الاستبداد وعامل المؤامرة الخارجية - المثير للفوضى عبر تفعيله لعوامل الاستبداد بشتّى السبل. لا أظن أننا بتحقق الضبط السياسي وتوازنه سنكون في موقع الضعف الحالي؛ ستتغيّر مفاهيمنا الثقافية والصناعية والاقتصادية إلى الأفضل، ونكون قادرين على مغايرة الواقع عن طريق مقاومة الخوف وعقده المتراكمة، ولا أجد أننا في حالة تستحق الانتظار أكثر من واقعنا المزري الحالي؛ فماذا ننتظر؟ أنريد أن نرى أفولا مكتملا لحضارتنا؛ فتكون لقمة سائغة للصهيونية المارقة بحجة معادلات السلام وضبط النفس الزائفة؟ أم أننا بحاجة إلى كسر حاجز الخوف والاجتماع على مشروع الإصلاح المنطلق من القاعدة السياسية وتفعيل الوحدة ومواجهة العدو المعتدي؟ فأكاد أجزم، إن انتصرنا في معركتنا هذه، فإننا نعيد للحضارة العربية والإسلامية أجمع وزنها العالمي المُستحق. ليعذرني القارئ على طرح هذه الموضوعات لما يرى فيها من دعوات تتكرر، ولكنها أكثر ما يقلقنا وما نحتاج إلى معالجته بدل أن نناقش قضايا جانبية لا يمكن أن ترتفع دون المعالجة المركزية الشاملة. حفظ الله أمتنا وأصلح حالنا وحالها.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني