تحفيز السياحة النوعية والمتخصصة

06 سبتمبر 2025
06 سبتمبر 2025

حظيت قبل فترة قصيرة بزيارة متحف السيارات السلطانية الذي جاءت الأوامر السامية الكريمة بفتحه للزوار من قبل جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - أيده الله - عاكسًا قصة فريدة لارتباط السيارة بالتطور التاريخي لمراحل وحقب تاريخية من نهضة عُمان. وهو بقدر ما يعكس الاهتمام الشخصي لبعض سلاطين عُمان بالمقتنى الفريد والنادر من السيارات؛ يزود الزائد ببعدٍ معرفي عن تطور إصدارات وصناعة بعض علاماتها التجارية، والأبعاد الهندسية والميكانيكية في تصميمها، والأحداث التاريخية التي تزامنت مع صناعتها أو استخدامها.

وعلى الجانب الآخر نقرأ في هذا الاتجاه السامي بفتح المتحف لزيارة العامة دعمًا للمشهد السياحي بمزار يركز على السياحة المتخصصة (المتاحف المتخصصة) التي بقدر ما تخاطب فئة المهتمين والمتخصصين تنشئ مجالات اهتمام لدى الفئات الأخرى، وتوسع وتنوع نطاق المعارف لديهم، وتكسبهم فهمًا لقطاع أو صناعة متخصصة. ويتواصل هذا الدعم من خلال افتتاح المسار السياحي بمزرعة رزات السلطانية بمحافظة ظفار التي تتيح للزائر ضمن الجولة التي يقضيها -إضافة إلى الاستمتاع بتجربتها الطبيعة المميزة- التعرف إلى أنواع مختلفة من الأشجار الاستوائية والمعمّرة، ومطالعة أصناف مختلفة من المحاصيل التي تنتجها من الفواكه والخضروات، وهو ما يعكس دعمًا للسياحة البيئية والزراعية المتخصصة.

إن مثل هذه الخطوات -مع ما نسمعه عن جمهور المهتمين بها والمقبلين عليها- تمثل في تقديرنا تأسيسًا لمجال نوعي في المشهد السياحي يمكن أن يبنى عليه، ويشارك المجتمع في صناعته. فالحديث عما تحظى به كل محافظة من محافظات سلطنة عُمان بمقومات سواء كانت طبيعية أو مشيدة يجب أن يتحول اليوم إلى أصلٍ سياحي يستثمر فيه ويبنى عليه في ظل اتجاه البلاد لتفعيل خطط تنوع الاقتصاد وتوسعه، وفي ظل المشروعات السياحية الكبرى التي يتوالى الإعلان عنها. ويمكن أن يدعم هذا ثلاثة اتجاهات نوعية لدعم مسارات السياحة: أولها؛ التوسع في المزارات والمتاحف المتخصصة وانتشارها وتنوعها جغرافيًا؛ حيث تمتاز سلطنة عُمان بالعديد من الأصول التاريخية (المادية والمعنوية) التي يمكن أن تحكي قصتها عبر هذه المزارات. ومن الأفكار (المبدئية) التي يمكن العمل عليها التفكير مثلًا في متاحف أو مزارات تحكي قصة الأزياء العُمانية وتطورها التاريخي، أو التركيز على وحدات معينة مثل تطور صناعة الخناجر أو السيوف، مع إضافة مقاربات لدور مثل هذا الوحدات من الأزياء في تكوين الإرث الحضاري، ومركزيتها في التاريخ، وفي الاتصال الدولي والحضاري مع الشعوب والأمم والحضارات الأخرى. ومن الأفكار المبدئية كذلك تأطير تجربة الفنون العُمانية الشعبية التقليدية في إطار مزار مبتكر ودائم يتيح للزوار تجربة متخصصة في فهم التكوينات الاجتماعية التي أنشأت هذه الفنون، والسياقات الاجتماعية والقصص والأحداث التي تطورت من خلالها، ودورها الاجتماعي المؤدى عوضًا عن الأبعاد الموسيقية والفنية التي تعكسها إضافة لدورها في الاتصال الحضاري. وكما تمثل (النخلة) مرتكزًا مهمًا في الحياة الزراعية والاجتماعية بشكل أوسع في المجتمع العُماني؛ فإنها وما يتصل بها من أنشطة زراعية، وطقوس اجتماعية، وتجربة تصميم مكاني وحضري عوضًا عن أنشطة الزرع والسقي والعناية؛ تشكل تجربة متفردة تتيح استثمارها بشكل مبتكر لدعم المعرفة والسياحة على حد سواء. ويمكننا سرد قائمة غير منتهية من الأفكار للوحدات التي يمكن أن تستثمر بذات الطريقة.

الاتجاه الثاني الذي يمكن أن يدعم السياحة النوعية والمتخصصة هو دعم تجربة المتاحف الشخصية؛ تلك المتاحف التي يقوم على تأسيسها أفراد نتيجة اهتمامهم الذاتي بمقتنيات معينة، أو جمعهم للقى والآثار التي تعكس تفضيلاتهم الذاتية. ومع معرفتنا بوجود العديد من مثل هذه المتاحف؛ فإن الدور الآن على جهات الاختصاص هو مساعدة هؤلاء الأشخاص في التسويق الجيد لتلك المتاحف أو المزارات التي قد تعكس أيضًا في شكل من أشكالها قصة وجود إنساني لعائلة أو تجمع اجتماعي معين؛ لتكون ضمن الخارطة السياحية التي تتيح زيارتها والتفاعل معها.

أما الاتجاه الثالث والمركزي فهو في ربط المقومات العمرانية والمكانية والطبيعية للمحافظات؛ بحيث يكون النمط السياحي لكل محافظة محددا ومتخصصا - مع عدم إهمال الإمكانات الأخرى -، وهو ما نشهد الآن فيه جهودًا جيدة من بعض المحافظات، ولعل أهمها محافظة مسندم عبر التركيز على أنماط سياحة المغامرات المتمثلة في الغوص، أو أنماط السياحة الفاخرة عبر المنشآت والتسهيلات التي جرى ويجري تشييدها ضمن هذا الاتجاه.

ولكن ما يحتاج إليه المشهد هو امتداد تحديد هذه الأنماط إلى بقية المحافظات مع الابتكار، ووجود النظرة المستقبلية والتنافسية لتفعيل تلك الأنماط بما في ذلك إمكانية إيجاد أنماط لسياحة الاستشفاء، والتآزر مع الطبيعة، والسياحة الرياضية المتكاملة، والسياحة العلمية وهو ما يتسق مع الإمكانيات والمزايا التنافسية لكل محافظة.

إن ما أنجز خلال السنوات الفائتة من تهيئة بنى تحتية للمشهد السياحي في المحافظات أمر جيد ومحمود، ولكن المرحلة القادمة تتطلب في تقديرنا تركيزًا أكبر على المزايا النوعية التي تشكل رافعة مركزية لكل محافظة لتنشيط مشهد سياحي نوعي ومتخصص. ومن المهم في هذا الصدد توسيع نطاق مشاركة المجتمع أفكارًا وتنفيذًا عوضًا عن أهمية الرؤى التشاركية بين المحافظات أنفسها لتفعيل التجارب السياحية المشتركة. كما أنه من الممكن في ظل ما تحظى به سلطنة عُمان من ميزات نوعية ترتبط بأنماط الحياة والثقافة وتدبير المعيش اليومي تفعيل ما يُعرف بـ (Authentic Tourism Experiences) وهي ذلك النوع من تجارب السياح التي تجعلهم أكثر احتكاكًا بالتجربة الثقافية والمعيشية للمجتمع في نشاطه اليومي ومأكله ومشربه، وأنماط الإنتاج، وتدبير الحياة لديه.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان