تحدي انتشار الذكاء الاصطناعي
24 ديسمبر 2025
24 ديسمبر 2025
يشكل تطوير نماذج متزايدة القوة أهمية شديدة لثورة الذكاء الاصطناعي التي تتوالى فصولها. لكن هذه الثورة تتألف من عنصر ثانٍ على ذات القدر من الأهمية: تكييف وتبني نماذج الذكاء الاصطناعي في مختلف قطاعات الاقتصاد؛ لخفض تكلفة المنتجات والخدمات الحالية، وإنشاء منتجات وخدمات جديدة، أو محسنة قادرة على دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ورغم أن تطوير النماذج يحدث بدرجة كبيرة في الولايات المتحدة والصين؛ فإن نشرها من الممكن، بل يجب أن يحدث في كل مكان.
في عموم الأمر سوف يتبع الذكاء الاصطناعي نمط منحنى على هيئة حرف (J). في البداية ينطوي الأمر على قدر ضخم من الاستثمارات ـ في مجالات مثل البنية الأساسية المادية، والبرمجيات، وتكييف نماذج الأعمال، وتوحيد البيانات، وتنمية رأس المال البشري ـ التي لا تحقق فوائد فورية.
خلال هذه الفترة تنشأ ضغوط تدفع الإنتاجية إلى الانخفاض، والتي تُعرَّف بشكل عريض لتشمل فوائد لا تُقاس بحسابات الدخل الوطني التقليدية. ثم يأتي دور إمكانات خلق القيمة التي تتمتع بها هذه التكنولوجيا، ويبدأ المنحنى في الصعود.
وبما أننا لم نصل بعد إلى هذه النقطة؛ فمن المستحيل تحديد الهيئة التي سيتخذها هذا الصعود على وجه الدقة ــ ارتفاع المنحنى (J) ومنحدره. في عموم الأمر يبدو أن المستثمرين يراهنون على عائدات ضخمة، لكن أجواء انعدام اليقين تخيم بوضوح على المناقشات الدائرة حول الذكاء الاصطناعي، ويتوقع بعض المراقبين ألا ترقى هذه التكنولوجيا إلى مستوى التوقعات، فَيُفضي ذلك إلى الركود.
وسوف يتوقف على الانتشار بدرجة أكبر كثيرا من التطور أي من الفريقين قد يتبين أنه مُـحِق. حتى الآن كان انتشار الذكاء الاصطناعي متفاوتا؛ حيث تبنت بعض القطاعات (خاصة التكنولوجيا، والتمويل، والخدمات المهنية) هذه التكنولوجيا بينما تخلفت قطاعات أخرى (بما في ذلك قطاعات التوظيف الضخمة مثل الرعاية الصحية والبناء) عن الركب.
ورغم أن مثل هذه التفاوتات ليست مفاجئة في هذه المرحلة؛ فإن استمرارها سيؤدي إلى منحنى (J) أكثر استواء بما يمثل عوائد ضعيفة على الاستثمارات الحالية وتأخيرات في النمو ومكاسب الإنتاجية. بعبارة أخرى؛ سوف يحدد بدرجة كبيرة نمط وسرعة الانتشار في السنوات القليلة المقبلة ما إذا كنا نشهد حاليا فقاعة ذكاء اصطناعي استثمارية. يحدث الانتشار من خلال قنوات متعددة، ويتمثل أسرعها -كما يُـزعَم- في مزودي البرمجيات كخدمة (SaaS). الآن يعمل مزودو الخدمة مثل Google Search، وMicrosoft Office، وCopilot by Notion، و Salesforce، وAdobe بالفعل على دمج الذكاء الاصطناعي في عروضهم. ومن الممكن أيضا دمج الذكاء الاصطناعي في العمليات العلمية بسرعة نسبيا. ومع قيام كبار مطوري النماذج اللغوية الضخمة والمدمجة بتوفير واجهات برمجة التطبيقات (APIs) التي تسمح بإنشاء نماذج الذكاء الاصطناعي المخصصة بسرعة يتسارع التقدم في مجالات أخرى. تخلق النماذج المفتوحة المصدر ـ الأكثر شيوعا في الصين مقارنة بحالها في الولايات المتحدة ـ مزيدا من الفرص؛ لأنها تتيح زيادة التخصص والمنافسة بما في ذلك من جانب شركات وبلدان أصغر حجما والتي تفتقر إلى البنية الأساسية الحاسوبية الضخمة اللازمة لأضخم النماذج.
ولكن لا تزال بعض الحواجز تحول دون الدخول؛ إذ تشكل إمدادات الكهرباء الجديرة بالثقة، والقدرة الحاسوبية القوية، والاتصال بالإنترنت عبر الأجهزة المحمولة شروطا أساسية لتبني هذه النماذج على نطاق واسع.
التجارة أيضا ـ وخاصة في مدخلات مثل أشباه الموصلات المتقدمة ـ كفيلة بإحداث فارق كبير. وكذا الحال مع رأس المال البشري: من هندسة الذكاء الاصطناعي المتقدمة والإدارة الاستراتيجية العالية المستوى إلى المهارات المرتبطة بالمستخدمين؛ يحتاج أي اقتصاد إلى ضمان الوصول إلى مجموعة من القدرات من خلال التعليم، وإعادة التأهيل، وتمكين العمالة من التنقل. القطعة الأخيرة من الأحجية هي البيانات؛ فحيثما تكون أنظمة البيانات مجزأة، أو غير مكتملة، أو غير دقيقة، أو يتعذر الوصول إليها سيكون تدريب النماذج الفعّالة بطيئا في أفضل الأحوال.
في حين يعتمد انتشار الذكاء الاصطناعي بدرجة كبيرة على مبادرات القطاع الخاص فإن أطر السياسات والهياكل التنظيمية مهمة أيضا.
يدرك قادة الصين هذا الأمر؛ فكما لاحظ مؤخرا مؤسس شركة هواوي رن تشنج فاي تبنت الصين نهجا عمليا يهدف إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لمعالجة التحديات التنموية والاقتصادية في العالم الواقعي.
وعلى هذا ففي حين يمثل تطوير نماذج ضخمة متزايدة القدرة أولوية قصوى فإن نشر الذكاء الاصطناعي هو أيضا أولوية قصوى؛ من أجل ضمان تحقيق مكاسب سريعة في جودة الخدمة، والكفاءة، والإنتاجية التي ستكون ضرورية للتعويض عن التأثيرات المترتبة على الشيخوخة السكانية السريعة. تعمل الحكومة الصينية بنشاط على توجيه المبدعين نحو تحقيق هذه النتائج. فبالإضافة إلى تشجيع المنصات التكنولوجية الكبرى على بناء نماذج مفتوحة المصدر كلفت الحكومة الصينية هذه المنصات بمهمة تطوير أو تمكين تطبيقات في قطاعات بعينها، مثل القيادة الذاتية، والرعاية الصحية، والروبوتات (في التصنيع واللوجستيات) وإدارة سلاسل التوريد والتكنولوجيات الخضراء.
كما ترعى الحكومة الصينية بانتظام مؤتمرات ومسابقات للمطورين. وقد آتت هذه الجهود ثمارها؛ على سبيل المثال تمثل الصين أكثر من 30% من إجمالي الإنتاج الصناعي العالمي. في عام 2024 استحوذت الصين على 54% من كل تركيبات الروبوتات على مستوى العالم. وتتباهى الصين الآن بما يقرب من نصف الروبوتات المركبة في العالم ما يزيد قليلا عن مليوني روبوت.
بالمقارنة مع الولايات المتحدة؛ يُـعَـد إطار السياسات الصيني أكثر انخراطا وتوجها نحو توفير الإرشاد فيما يتعلق بالتطبيقات وتبني التكنولوجيا عبر القطاعات في الاقتصاد. على النقيض من ذلك؛ تعمل شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة وشركات الذكاء الاصطناعي البادئة الجيدة التمويل على توسيع حدود النماذج الضخمة غالبا في سعيها وراء الذكاء العام الاصطناعي، والذكاء الاصطناعي الفائق.
وفي حين تظل قنوات الانتشار مفتوحة فإن استخدامها متروك إلى حد كبير للقطاع الخاص. قد ينجح ذلك في بعض القطاعات، مثل التكنولوجيا، والتمويل، والخدمات المهنية التي تمتلك ما يلزم من الموارد والدراية للتجربة ثم التبني. لكن الجهات الفاعلة الخاصة من غير المرجح أن تتمكن وحدها من معالجة العوامل التي تحد من تبني الذكاء الاصطناعي في قطاعات بعينها، مثل تجزئة البيانات، ونقص القدرات، والعقبات التنظيمية، ومشكلات الحجم.
والنتيجة المحتملة ـ وغير الضرورية ـ هي نمط انتشار ذو سرعتين على النحو الذي يُفضي إلى نمو اقتصادي دون المستوى المطلوب، ونتائج توزيعية سلبية، وتآكل الأسس الاقتصادية التي يستند إليها الأمن القومي.
فيما يتعلق بالدفاع أدركت حكومة الولايات المتحدة منذ فترة طويلة أن بعض التوجيهات الحكومية مناسبة لضمان قيام الإبداع في القطاع الخاص على خدمة الأهداف العامة. ويتطلب انتشار الذكاء الاصطناعي نهجا مماثلا. الأمر يستلزم نهجا هجينا، ونشطا، وعمليا، ومحددا وفق القطاعات عبر رقعة واسعة من الاقتصاد. الفشل في القيام بذلك من شأنه أن يؤدي إلى نمو اقتصادي دون المستوى المطلوب، ونتائج توزيعية إشكالية، وإضعاف الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها الأمن القومي.
عندما يتعلق الأمر بالانتشار فإن الاستراتيجية المطلوبة ليست المراقبة، والانتظار، والأمل.
مايكل سبنس الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد. شارك في تأليف كتاب «الأزمة الدائمة: خطة لإصلاح عالم متصدع».
خدمة بروجيكت سنديكيت
