المواطن.. أصول المفهوم والتباساته

23 نوفمبر 2022
23 نوفمبر 2022

ظل مفهوم المواطن مفهومًا إشكاليًا في تاريخ الفلسفة والفكر السياسي، ربما لأسباب تعود إلى الواقع التاريخي نفسه وإلى تمظهرات حضور المواطن في ذلك الواقع؛ وهي لم تكن -دائمًا- تفصح عن معنًى قار لهذا المفهوم ولهذا الكائن السياسي المدعو بالمواطن. لعلنا، اليوم، أميل إلى الاعتـقاد بأننا في وضع أفضل يتـيح لنا تحديد معنى المواطن أكـثر من ذي قبل، أو هكـذا - على الأقل - يخيل إلينا. لكن قليلًا من الإمعان في صورة الهندسات السياسية الجارية اليوم، باسم «ما بعد الدولة» و«ما بعد المجتمع»، تظهرنا على حقيقة أن المواطـنة، برمتها، باتت موضع مساءلة من قبل سياسيات العولمة وخطابها الذي شرع في الاعتياض عن مفهوم المواطن بمفهوم الإنسان: العابر لحدود الأوطان، أو كما يزعم! وهكذا نـلفي أن الوضع النظري الاعتباري للمفهوم هذا ما برح يكتنفه قـدر من الطبيعة الإشكالية منذ بدايات تبـلور مفهوم المواطن في الفلسفة السياسية اليونانية قبل ألفين وأربعمائة عام، وأن هذه الطبيعة لا تلبث أن تتجدد فتطل بوجه جديد كلما خلنا أن الوعي كون إدراكًا متكاملًا لهذا المفهوم. ومن البين أن حقيقة هذا التوتر الإشكالي تنجلي أكثر كلما أمكن العودة إلى البدايات وقراءة المفهوم في تاريخه.

يمكن استنتاج هذا الوضع Statut الإشكالي للمفهوم من كتاب السياسيات لأرسطو، ومن مقارنة الأخير المواطنين بالمقيمين والتجار والعبيد والأطفال، في محاولة منه تمييزهم عمن يجاورونهم. وموطن الإشكال في موضوع المقارنة هذه في أن هذه الفئات، جميعها، تتقاسم الموطن والمدينة cité أو الدولة. لكن أرسطو- الشديد الانتباه إلى علاقات السياسي وتميزها وتمايزها من الاجتماعي - سرعان ما يهتدي إلى رسم المائز بين المواطنين وتلك الفئات التي تجاورهم حين ينتهي إلى تعريفهم بأنهم «أولئك الذين يشاركون في السلطة»، أي في الشؤون العامة، مخرجًا سواهم من الفئات من دائرة السلطة والشأن العام والمواطنة.

إن آكـد الشروط في المواطنة الإغريقية - التي لم يكن أرسطو يفعل أكثر من أنه يصفها واقعًا قائمًا - هو انبناؤها على الحرية؛ حيث المواطن وحده الحر، أي وحده الذي لا تحكمه الضرورة أو تستعبده. ومع أن الفلاسـفة الإغريق لـم يفكروا في الحرية، بوصفها موضوعًا فلسفيًا، إلا أنهم أدركوا - على التحقيق - مشروطية المواطنة بها. حين لا يكون المرء، في اليونان القديمة، متحررًا من إكراهات ضرورات الحياة؛ حين يكون منغمسًا في الشـؤون الخاصة لتأمين أسباب العيش، لا يكون حينها - في عـرف فلاسفة الإغريق - مواطنًا. لا عجب، إذن، إن استـبعد العبيد والتجار والنساء من نطاق المواطنة؛ فهؤلاء خاضعون، جميعـًا، لأحكام الضرورة ومنصرفون إلى تأمين الحاجات ؛ لذا لا يهجسون بالشؤون العامة.

ولقد يمكن أن نلحظ شكلًا ابتدائيًا من الإرهاص باقتران الحرية بالمساواة في التقليد الإغريقي القديم، على نحو ما ينبهنا إلى ذلك النـص الأرسطي نفسه؛ وبيان ذلك إلحاح أرسطو، المستمر، على تميـز الدولة - من دون سائر المؤسسات - بعلاقة المساواة بين المواطنين. وهي الفكرة التي يسوقها في معرض بيانه الفارق بين مجال الدولة ومجال الأسرة أو المجال البيتي Domestique؛ العائلي والاقتصادي؛ حيث مبنى الأخير على تفاوت المراتب، أو على عدم المساواة، على ما تـفصح عن ذلك العلاقات الأمرية (بين الآمـر والمأمور): علاقة السـيد بالعبد، وعلاقة الأب بالأبناء، وعلاقة الزوج بالزوجة؛ العلاقات التي يمحا فيها مبدأ المساواة. غير أن هذه المساواة القائمة في المجال العام تظل محصورةً في النطاق الضيق للمواطنين ولا تشمل من يقعون خارجه، مع أن أفراد المجتمع يعون، جميعًا، هذه الثنائية بين العـام والخـاص الحاكمة لوجودهم الاجتماعي، ولا يرون فيها ما يدعو إلى الشعور بالتنافـر أو التناقـض.

تلك كانت أصول المفهوم في التقليد اليوناني المؤسس (على الأقل في ما وصلنا، حتى الآن، من أثـر مدون). والحق أن مفهوم المواطن لم يشهد - بعد التجربة الإغريقـية - على تعديل كبير في مضمونه، على ما تظهرنا على ذلك التجربة التاريخية لروما: وريثة التقليد اليوناني. وحتى حينما تـنصرت الإمبراطورية الرومانية (وترومنت المسيحية معها)، ودخلت منظومة القيم المسيحية في نسيج نظامها الاجتماعي، ظل النموذج المتبع في حياتها السياسية إغريقيـًا، في منحاه العام، مع توسع روماني في بناء مؤسسات التمثيل فرضه، في المقام الأول، اتساع النطاق الجغرافي والسكاني للإمبراطورية، ولكن فرضه - أيضًا - تفـوق الرومان على غيرهم من الأمم في التـشبع بروح القانون وبهاجس تحكيم القوانين في كل شأن عام.

إلى ذلك، لم تشهد حقبة سيادة الإمبراطورية الرومانية وتقاليدها على إنتاج فكري وفلسفي نقيس به، ومن خلاله، مقدار ما حصل من تقـدم أو تراجع في مفاهيم المواطن والمواطنة والحرية والمساواة مقارنةً بالتراث اليوناني السياسي والفلسفي. بل المعلوم، عند السواد الأعظم من مؤرخي الفكر، أن الرومان ما اطلعوا على كتاب السياسيـات لأرسطو ولا علموا بوجوده؛ لأن الكتاب ظل مفقودًا لخمسة عشر قرنًا فاصلة بين عهد أرسطو - في القرن الثالث قبل الميلاد - والقرن الثاني عشر للميلاد. وحتى حينما اتصلت علاقة المفكرين به، منذ القديس توما الأكويني، لم تـتـبد آثاره في كتاباتهم السياسية التي لم تكد تخرج عن الأطر التي رسمتها الإمبراطورية، ثم من بعدها، الكنيسة. على أنه مثلما غاب مفهوم المواطن من الفكر السياسي الروماني - في ظل تمسك النظام الروماني بمبدأ المواطنة في الدولة - وقع التفكير، في الوقت عينه، في الحرية ولكن لا بما هي صنو المواطنة ومن مستلزماتها أو بوصفها مسألةً سياسية، بل من زاوية تتصل بالماهية الوجودية للذات على نحو ما دشنت التفكير اللاهوتي فيها كتابات القديس أوغسطين وتلامذته بعده. ولن يقع تصحيح للنظر في مسألة الحرية وفي اتصالها العضوي بمسألة المواطنة إلا في العصر الحديث؛ نعني مع بداية نشأة الفلسفة السياسية الحديثة، في مطالع القرن السابع عشر؛ هذه التي ندين لها بالنظام المفهومي الذي ما زلنا نستخدمه.