المجتمع والمدرسة والتعدين المعرفي
في كتابه الشهير: " The Schooled Society:The Educational Transformation of Global Culture" يتأمل عالم اجتماع التربية ديفير بيكر في الطريقة التي صاغت بها فكرة "المجتمع المدرسي" عالمنا الحديث، وكيف أن فكرة انخراط كتل متنامية من المجتمعات البشرية في نظام تعليم مؤسساتي بإيديولوجياته وأفكاره وأنماطه وأساليبه ونهجه وقياساته وأدواته ساهمت في صوغ المجتمعات الحديثة كما نراها ونميزها بصورتها وكما يريد لها التعليم أن تكون، وهو يناقش الطريقة التي حرك فيها التعليم عبر الزمن ديناميكات الحراك الاجتماعي، وأعاد موضعة القوى الاجتماعية، ووضع المعايير المحددة لذكاء الأفراد، وأعاد تعريف الطريقة التي يتفاعل بها الفرد مع مجتمعه. وفي الواقع فإن التحول الذي عاشته البشرية مع انتشار نمط التعليم الجماهيري وخاصة خلال الـ 150 عامًا الأخيرة لم يكن مجرد تحول تنموي يكسب المجتمعات أدوات المعرفة للانتاج والتنافس والنمو فحسب، بل هو تحول في أدوات فهم المجتمع، فما يراد لمجتمع ما أن يكون أصبح يسهل فهمه من خلال ما تتضمنه موارد الدرس التعليمي، وما تبنى عليه التفاعلات في بيئة التعلم، وما تتأسس عليه الفلسفة التعليمية في اتصالها بالنظام السياسي القائم.
وإذا كان التعليم وبيئته وتفاعلاته أداة للكشف الاجتماعي، فما الذي يمكن أن يكشفه لنا عن مسار المستقبل. في الواقع يسهل الحديث عن أفكار كبرى يمكن أن تدخل على التعليم لتغير نمطه من الداخل، وتسهم في امتداد تأثير في بنية حياة المجتمعات وأنماطها، أفكار من قبيل تقنيات الواقع الافتراضي التي يمكن أن تغير إحساس المعلم والمتعلم إزاء المادة المعرفية التي يتعرض لها، وتتغلب على جدلية اتصال المعرفة بالواقع، وخاصة تلك المعرفة المرتبطة بالتاريخ والطبيعة، ويمكن الحديث عن تقنية الهولوغرام مثلًا والتي يمكن أن تتيح تجسيدًا لشخصية المعلم أو بعض الشخصيات التاريخية والعلمية في إطار تفاعلي مع المتعلمين في قاعة الدرس، ويمكن الحديث كذلك عن عن فكرة التعلم التكيفي التي يقول عنها دون فوغان "أنها ستتيح استخدام تحليلات التعلم بناءً على البيانات التي تم جمعها من الطلاب. وتستخدمها لتحديد أفضل طريقة لتعلم الفرد ، ثم يقوم بتكييف المواد التعليمية وفقًا لذلك على مدار الفصل الدراسي. فإذا وجدت أن الشخص يتعلم بشكل أفضل من خلال مشاهدة مقاطع الفيديو بدلاً من قراءة كتاب مدرسي ، على سبيل المثال ، فسوف تدمج المزيد من مقاطع الفيديو في المنهج الدراسي". ويمكن الحديث عن قائمة لا تنتهي من التقنيات والأساليب والأدوات التي تبقى في النهاية ممكنات لعملية التعلم وللنظام التعليمي القائم، ولكن ماذا عن التمحور حول شخصية مجتمع التعلم نفسه؟
في تقديرنا هناك عاملين أساسيين سيشكلان مستقبل "الإصلاح التعليمي" – إن صحت التسمية – الأول هو عامل التنبه إلى (عصر تضاؤل الانتباه) والثاني و التنبه إلى عامل (التفجر المعلوماتي). في دراسة لـ Microsoft Corp قام الباحثون في كندا بمسح 2000 مشارك ودرسوا نشاط الدماغ لـ 112 آخرين باستخدام مخطط كهربية الدماغ" (EEGs). وجدت الدراسة أنه منذ عام 2000 (أو تقريبًا عندما بدأت ثورة الأجهزة المحمولة) انخفض متوسط مدى الانتباه من 12 ثانية إلى ثماني ثوان". وهو ما يطلق عليه اليوم ذاكرة السمكة الذهبية. يمكننا أن نلحظ ذلك من خلال المشاهدات العيانية المباشرة ومن خلال تأكيد العديد من الدراسات – وإن تفاوت الآجال المقدرة لزمن الانتباه – إلا أن ذلك يبقى متغيرًا يدور حوله صراع المعلمين والموارد التعليمية وتصميم بيئات التعلم حول الطريقة الأمثل لشد انتباه المتعلم وإدامة هذا الانتباه وإمساك زمان الصعود والهبوط به خلال زمن التعلم.
وفيما يتعلق بعامل التفجر المعلوماتي فإن كمية ما يتعرض له الطلبة والمعلمون على وجه سواء اليوم من تدفق معلوماتي حسب "أسية" توالد المعلومات يجعل من الضرورة بمكان البحث عن المهارات والأدوات التي يمكن من خلالها التعامل مع هذا التفجر وتوظيفه بما يخدم صوغ الشخصية المتعلمة المرادة. وهنا قد نجد مأربنا في مفهوم ابتدعه الاقتصادي مايكل لوفيل وسماه "التعدين المعرفي" وهو يشير إلى الطريقة التي يمكن من خلالها استنباط المعلومات (الأكثر جدوى) و (الأكثر نفعًا) للمعاونة في صنع القرار على مستوى الإدارة والاقتصاد، ويمكننا اسقاط هذا المفهوم اليوم على نهج التعلم، فنحن نعتقد أن الدور الحاسم الذي يجب أن يقوم به المعلمون اليوم والتعليم على وجه عام هو إكساب الطلبة الأدوات الأمثل للتعامل مع نهر دافق لا يتوقف من المعلومات، بحيث يكونوا أكثر مكنة لانتقاء ما ينفع تعلمهم، وتصفية ما يتناسب مع سياقهم القيمي والثقافي، وتوظيف ما يخدم اتجاهاتهم العلمية وميولهم المعرفية والبحثية والمهنية لاحقًا. وكما يقول إريك ديبيتاز: "سيكون أفضل المعلمين هم أولئك الذين يمكنهم مساعدة الطلاب على تولي مسؤولية تعلمهم".
ما ينسحب على التعليم في تقديرنا ينسحب على الجانب الآخر على المجتمعات ومعضلتي الانتباه وتفجر المعلومات تحكم حركة المجتمعات اليوم في شتى مجالاتها، وحسب تصورنا يمكن أن يؤسس التعامل الجيد مع هاتين المعضلتين سواء على صعيد التدبير الإعلامي أو السياسي أو الاقتصادي لبناء وصوغ سياسات وتدابير عامة أكثر فعالية. فالرسالة الإعلامية الأكثر تأثيرًا اليوم هي التي تحدد على وجه الدقة ما تريد قوله واستخلاصه من بين كم مهول من المعلومات العرضية المتعلقة بموضوعها ومن بين عدد لا متناه من المصادر التي تنافسها وتتقاطع معها، والأهم من ذلك تدرك أنها موجهة لسياق اجتماعي يحوزه انحسار الانتباه ويؤطره ضعف قدرة الفاعلين الاجتماعيين عمومًا على إدامة التركيز في مصادر أو وسائل أو موارد بعينها لفترات طويلة. وهذا ما يصوغ اليوم ذكاء التدبير في الإدارة وحشد الوعي. ويبقى المنطلق أولًا وآخرًا هو الطريقة التي نصمم بها بيئات تعلمنا، فتلك الطريقة ستعني بعد سنوات الطريقة التي نصوغ بها صورة مجتمعاتنا.
