القرضاوي وجدل الرحيل

03 أكتوبر 2022
03 أكتوبر 2022

تعرفت معرفيا على الدكتور يوسف القرضاوي قريب عام 1996م، حينها كنت في العقد الثاني من عمري، إذ وقع في يدي كتاب الحلال والحرام في الإسلام، الذي قال عنه القرضاوي: «الكتاب الذي أعتبره بداية حقيقية للتأليف والذي دخلت به سوق الكتاب والمؤلفين»، حيث تعود قصة تأليف الكتاب إلى عام 1959م، هذا الكتاب كان لا يفارقني في البيت والمسجد وحتى الطريق والمدرسة، فكأني وقعت على رؤية معرفية أخرى وسعت مداركي حينها، ورأيتها تخالف الصورة الإفتائية عندنا، كذلك وتخالف ما كان يصلنا من المملكة العربية السعودية من كتب الشيخين خصوصا ابن باز «ت 1999م» وابن عثيمين «ت 2001م»، مع كتيبات كانت تصل مع الوالد عندما كان يتردد إلى السعودية للحج، وما زلت أحتفظ ببعضها حتى اليوم.

كنت في تلك الفترة مغرما بكتب سعيد النورسي «ت 1960م»، وغالبها أقرب إلى الجانب العرفاني والرمزي، فبقدر ما تعطيك شيئا من الجمال، لكنها لا تشبع رغباتك المعرفية، خصوصا لما يكون الإنسان في مقتبل العمر، يعاني من ضمأ معرفي يحاول ريه بما يجد من سبل معرفية حينها، وكانت شحيحة، إلا أنني وجدت في فتاوى الشيخ بيوض «ت 1981م» وبعض ما يصلنا حينها من كتب المدرسة الإصلاحية في المغرب، ككتب علي يحيى معمر «ت 1980م» وأبي اليقظان إبراهيم «ت 1973م»، ثم الشيخ البكري «ت 1986م»؛ شيئا من السعة، ومن هذه المدرسة بدأت أبحث عن المدرسة الإصلاحية في عموم العالم الإسلامي، من محمد عبده «ت 1905م» وما بعده، ثم من القرضاوي اهتديت إلى شيخه محمد الغزالي «ت 1996م» وكتابيه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، وهموم داعية، فوجدت فيهما حينها رؤية واسعة عكس ما يطرح، بسبب شيوع مدرسة أهل الحديث آنذاك، وصراع السلفية مع الصوفية، والصراع الكلامي بين المدارس الإسلامية، ولم تكن حينها جدلية السنة حاضرة عندنا حضورًا كبيرًا، ولما قرأنا كتاب كيف نتعامل مع السنة النبوية للقرضاوي، وقد ألفه إجابة لطلب شيخه الغزالي؛ لم يكن في مداركنا يومها أبعد عن الجدل الحاصل بين المذاهب الإسلامية، ولم أطلع حينها لجدليات محمود أبو رية «ت 1970م»، ثم جدليات أحمد صبحي منصور «معاصر»، وتأصيلات أبي القاسم حاج حمد «ت 2004م» وغيرهم، فضلا عن الجدليات الأخرى عند طه عبد الرحمن «معاصر» والجابري «ت 2010م» وأركون «ت 2010م» وفرج فودة «ت 1992م» ونصر حامد أبو زيد «ت 2010م»، فهذه شبه غائبة عن ذهني وذهن من أجالسهم حينها من الشباب المهتمين بالمعرفة، فكانت الصراعات الكلامية، والقضايا الفرعية أكثر ما يشغل الشباب، ولم يكن تداول الكتاب حاضرا، ولا إمكاناتنا المادية تساعدنا على ذلك، فكنا نبحث عن المساجد التي توجد فيها كتب متناثرة، وأغلبها كتب تراثية، وبطبعات لا تشجع على القراءة فيها.

ولما أسست مكتبة الندوة في ولايتي بهلا عام 1996م، بدأت بغرفة صغيرة ما زلت أتذكر جميع ملامحها في حارة الندوة ببهلا؛ ثم توسعت لاحقا في منطقة السيالي، بيد أنني وجدت كتب الإخوان أو الإسلاميين أكثر حضورا وانتشارا من الكتب التراثية، ولم يكن شيء في أذهاننا يومها هذا التصنيف، بيد أننا نبحث حينها عن كل ما يبعدنا عن الصراعات المذهبية، والجدليات التي ضيعت الكثير من وقتنا، فرأيت أقراني من الشباب يقبلون على كتابات سيد قطب «ت 1966م» ومحمد قطب «ت 2013م» وزينب الغزالي «ت 2005م» ومحمد الغزالي ومحمد عمارة «ت 2020م» وفتحي يكن «ت 2009م»، كما انتشرت أيضا كتب علي شريعتي «ت 1977م» وعلي الوردي «ت 1955م» ومالك بن نبي «ت 1973م» ومحمد البوطي «ت 2013م» ومصطفى محمود «ت 2009م» وحسن السقاف وغيرهم، وحتى الكتب الغربية أو المترجمة كانت في هذا المصب، ككتب روجيه غارودي «ت 2012م» وعلي عزت بيجوفيتش «ت 2003م» وأحمد ديدات «ت 2005م» وأبي الأعلى المودودي «ت 1979م» وأبي الحسن الندوي «ت 1999م» وغيرها.

ومن هذه الكتب التي لقت رواجا كبيرا حينها كتب يوسف القرضاوي، ولا أبالغ إن قلت إن تشكل العقل المعرفي يومها في الجانب الإسلامي كان تشكلا إخوانيا، فكانوا أكثر ثقافة واطلاعا من التراثيين والتقليديين السلفيين، وكتبهم أقرب إلى ميولات الشباب، وبعيدة عن المذهبية، وترى الإسلام ليس في الشكليات، وليس محصورا في الطقوس والمساجد، وتحدثت هذه الكتابات عن الدولة وقضاياها المعاصرة، وعن العدالة الاجتماعية، وعن الاشتراكية والرأسمالية، وعن قيم الإسلام الكبرى، وقرأت النص الديني والسيرة والتأريخ بطريقة جمعت بين القيم الكبرى، والإسلام الحركي، فلقيت قبولا عند الشباب، وتداولوها في مجالسهم، وكانت حديث نقاشهم وجدلياتهم.

ومع ظهور الفضائيات في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، أصبح للقرضاوي ظهوره المتكرر في قناة الجزيرة من خلال برنامجها الشريعة والحياة خصوصا، فلمع اسمه بالشكل الأكبر، وأصبح أكثر رمزية علمائية إسلامية لها بروز إعلامي، مع وجود شخصيات أخرى عميقة، إلا أنه في المقابل كان ظهور المنتديات الإلكترونية، أعطى مساحة أوسع لبروز العديد من الآراء، كانت يمينية أم يسارية، وهكذا مع ظهور البالتوك وغرفه الصوتية، والمدونات والمواقع الشخصية، وانتشار معارض الكتب، وتقليل الرقابة عليها، فظهرت رمزيات أكثر سعة في بداية القرن العشرين، وبرزت كتب ابن قرناس والصليبي «ت 2011م» وخزعل الماجدي وفراس السواح وسروج وحسن فرحان المالكي وجورج طرابيشي «ت 2016م» ومحمد شحرور «ت 2019م» وعبد الجبار الرفاعي وغيرهم، كما انتشرت كتابات الصحويين كسلمان العودة وعبدالرحمن عبد الخالق «ت 2020م»، بيد أن الفضائيات، والقنوات الرسمية فتحت مجالا للتقليديين والصحويين أكثر من غيرهم، إلا أن فضاء الإنترنت وسعته جعل التيارات الأخرى حاضرة أيضا، لهذا بدأت تدخل قضايا جدلية جديدة إلى العقل المعرفي عندنا، كالأنسنة والظرفية والعقلنة وقضية السنة والرواية ونحوها، ووجد العديد أن ما يطرحه هؤلاء أعمق مما كانوا يجدونه في كتب الإخوان.

لهذا أرى بظهور الفضاء الإلكتروني، وشيوع الكتاب الآخر؛ ضعف الكتاب المعرفي من قبل الإخوان المسلمين، كما أن كتب يوسف القرضاوي لم تعد بذاك القوة كما كانت سابقا، إلا أن بروز القرضاوي الأكبر كان إعلاميا، مع بروزه في المؤتمرات والندوات الفقهية، والاحتفالات الرسمية الكبيرة، وحصل على جوائز عديدة من دول خليجية وعربية وإسلامية، ثم إن بروزه الإعلامي ظهر بموقع الوسطية من جهة، وموقع الجمع بين تشدد السلفية وتحرر القراءات المعاصرة من جهة ثانية، فهو أقرب إلى القراءة المقاصدية للنص من الوقوف عند حرفيته، لكنه لم يستطع أن يقدم قراءات نقدية وتفكيكية للنص الذي تجاوزه آخرون ممن عاصره بشكل كبير جدا، ومع كتاباته الأولى، وجدلياته من الاتجاهات الاشتراكية والسلفية؛ إلا أنه أكثر برودا في عقوده الأخيرة من عمره، وكان اشتغاله بالقضايا المصيرية، كقضية الأقصى والعمليات الفدائية، ونقده للسياسة العربية، والاستكبار الغربي، جعلته أقرب إلى الجماهير في جوها العاطفي العام، كما أنه تراجع في التقريب خصوصا بين السنة والشيعة، فجعلت رأيه هنا أكثر حدة، مما لقي قبولا بهذا عند الاتجاهات السلفية التقليدية في الجو السني بشكل عام.

النقلة الأكبر في حياة القرضاوي إعلاميا تمثلت في أحداث الربيع العربي عام 2011م، ووقوفه مع الثورات العربية، خصوصا في مصر وتونس وليبيا وسورية، فكانت خطب الجمعة التي تبث مباشرة حينها من قطر، ينتظرها الآلاف في عموم العالم الإسلامي، ويرونها خير ناطق لهم، كما زادت شعبيته في لقاءاته وتصريحاته حول هذه القضايا في قناة الجزيرة خصوصا، ورآه الإخوان والصحويون خير ممثل لهم، بعدما كان من أشد أعدائه السلفيين التقليديين، إلا أن تشجيعه للخروج على الحاكم -في نظري- هي القضية الثانية التي توسع فيها الإخوان المسلمون عن الخط السني التقليدي، أما الأولى فالابتعاد عن نظرية القرشية والتغلب عموما إلى الخط الشوروي والديمقراطي بصورته الأوسع، ولهذا من الإباضية من يرى أن الإخوان المسلمين كما عند سيد قطب أقرب إلى نظريتهم السياسية، والأمر الثاني تشجيعهم على الخروج على الحاكم المتغلب رآه العديد كالبوطي مخالفا للنظرية السنية في عدم جواز الخروج على الحاكم ما لم يظهر كفرا بواحا، لهذا لجأ بعض الصحويين إلى تبرير ذلك بذكر كفريات هؤلاء الحكام، مما يبيح الخروج عليهم.

وبانتصار الإخوان في مصر وتونس والمغرب، وقبلهم في تركيا، أصبحت صورتهم تتمدد بشكل أكبر عند الجماهير في الخط الإسلامي، ورؤيتهم أكثر توسعا من قبل، وتشكل الإسلام السياسي بعد الإسلام الحركي واقعا، بدأت الصورة -بعيدا عن إيجابيات وسلبيات التجربة السياسية- تتغير في بعض الدول الملكية العربية، وأصبح تمدد التجربة الإخوانية في جوها السياسي الحركي، كانت وفق تنظيم سري يشاع مخابراتيا، أو وفق جمعيات اجتماعية خيرية ومعرفية وسياسية ظاهرا؛ تتجه إلى الجانب الآخر في التخوف من تمددها وتكرارها، ومع سقوط الإخوان بعد 25 يناير 2013م في مصر، أصبح الإخوان ليسوا تهمة في مصر وحدها، بل حتى في العديد من دول المنطقة، ومنها خليجية كانت مأوى لهم بعد ملاحقات جمال عبد الناصر «ت 1970م»، وتوغلهم إسلاميا وصحويا في الخليج العربي، بسبب الاستقرار والطفرة المالية، ليصبح الإسلام الحركي جزءا من العقلية المعرفية المقابلة للإسلام الجامي أو التقليدي إن صح التعبير.

هذا بدوره سيسقط أثره السلبي في القرضاوي، ليتهم في عام 2015م بالإرهاب، كما أن مؤسسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين التي أسسها عام 2004م، وكان رئيسا لها لفترة طويلة، وضعت ضمن دائرة الإرهاب، فحكم عليه غيابيا بالإعدام أو السجن المؤبد من المحكمة العسكرية المصرية، بتهمة التحريض على قتل عاطف طاحون عام 2015م.

هذه المراحل المتقلبة التي عاشها القرضاوي، ومع انضمامه إلى الإخوان في فترة مبكرة، وإخلاصه لهم، وعدم تراجعه كتراجع شيخه الغزالي عنهم، ليطرح على نفسه سؤالا في فترة مبكرة من الانضمام إليهم، ويذكر ذلك بعد أكثر من نصف قرن في كتابه ابن القرية والكتاب، وهو يؤرخ لنفسه: «أريد أن أسأل نفسي: هل كان انضمامي إلى دعوة الإخوان المسلمين خيرا لي في ديني ودنياي؟ وهل استفدت من هذه الدعوة أو لا؟ وأود أن أقول بصراحة وجلاء: إنني حققت مكاسب دينية ومعرفية كبيرة، واجتنيت فوائد جمة بانضمامي إلى دعوة الإخوان»؛ إلا أنه كان ناقدا لهم أيضا، بقدر ما كان مخلصا لهم.

وبعد رحيل القرضاوي قبل أيام خلت، ومع جدلية الرحيل، إلا أنه يعدّ اليوم من أكثر الجدليات الدينية في العالم الإسلامي، فقلمه بدأ من أربعينيات القرن العشرين، ولم يتوقف حتى مرحلة أخيرة من حياته، ليترك إرثا جمع بين نقد الفقه الإسلامي، وتوليد آراء عصرية جديدة، مع تعميق للإسلام الحركي، كما أن لسانه وخطبه بدأت قبل ذلك، إلا أن قناة الجزيرة كانت منبرا له إلى العالم العربي والإسلامي، أفضت عليه النقيضين بين القبول والرفض، والإعجاب والنقد، والقدوة الملهم والإرهابي، والعالم الوسطي ليقابله عند آخرين عالم التطرف والعنف، وهذا بلا شك نتيجة تأثيره وحضوره، وكثرة آرائه الارتجالية في جملتها، إلا أن هذا التأثير ينبغي أن يقابله قراءة نقدية لتراث القرضاوي خصوصا، وللإسلام الحركي ثم الإسلام السياسي عموما، ولا ينبغي الوقوف عند الشخوص، فلكل إنسان مسارات في حياته، وتقلبات في أفكاره، إلا أن نقد هذه المراحل هي التي تطور المعرفة الإنسانية وتهذبها، أيا كان توجهها وتشكلاتها.