العلم والذات الحضارية

21 مايو 2022
21 مايو 2022

لعل أحد أهم الأسئلة الحضارية التي يتوجب على المجتمعات مكاشفتها وطرحها على الدوام وإبداء القلق إزاءها بشكل غير منقطع هو سؤال العلاقة بالعلم، وتندرج تحت هذا السؤال جملة من الأسئلة الفرعية حول غاية المجتمع من العلم، ومدى استدماج منتجاته ليس فقط في شؤون الاقتصاد والصناعة وتطوير القطاعات والعمليات الحيوية، وإنما تجاوز ذلك لمساءلة مدى تجذره في أنماط الثقافة العامة، ومدى استدماج أسسه في معيش الناس وحوارهم وأنماط تفكيرهم وتدبيرهم، وفي نظرتهم للذات الحضارية وللمستقبل. وإن كانت النقاشات التي تدور حول العلم في عالمنا العربي يميل الجزء الأكبر منها إلى تكميم المسألة بالبحث عن الأرقام سواء كانت تلك المتصلة بمستويات الانفاق على البحث العلمي أو المرتبطة بمؤشرات الانتاج البحثي وبراءات الاختراع أو المستندة إلى تفصيل طبيعة الانتاج في كل فرع من فروع المعرفة العلمية والأكاديمية – وكل تلك مؤشرات مهمة لبناء أساس قوي للمناقشة – إلا أن ما ينقص كل تلك النقاشات هو التقدم خطوة للأمام في فهم الكيفية التي يؤثر بها العلم على الذات الحضارية للمجتمع.

في كتاب قديم صدر للمفكر زكي الميلاد في أواخر القرن المنصرم تحت عنوان: "المسألة الحضارية: كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟" يعلق الميلاد على مفهوم آلفين توفلر الذي جاء به "صدمة المستقبل" بالقول أن محددات هذه الصدمة تتجسد في عدة اعتبارات أهمها:

- أن العلم أخذ يطور الحياة بشكل سريع ومن وقت لآخر يطلق معه موجة من الاعصار على هيئة متغيرات قد تشكل صدمة.

- صدمة العقل الإنساني بعد أن توسع خياله إلى أبعد الحدود وبما يشبه الحالة الأسطورية.

- انفتاح ذهنية الإنسان على احتمالات كثيرة ممكنة وحتى غير ممكنة.

تمكننا هذه المحددات في تقديري من وضع الأسئلة المناسبة لبحث علاقتنا بالعلم في العالم العربي، ويجدر بنا أن نطرح أسئلة من قبيل: ما طبيعة الذهنية التي نتعامل بها مع منتجات العلم؟ هل هي ذهنية الاحتفاء أم ذهنية التوجس أم ذهنية النقد وإعادة التفكيك والتفكير أم ذهنية الانبهار؟ ومن المسؤول عن تحديد تلك الذهنية وما دور النسق الاجتماعي في صياغتها وتوجيهها؟ وهل نتعاطى أساسًا مع العلم بأنه أداة لفتح الاحتمالات على مصراعيها عبر مجمل منتجاته وعملياته وكل أشكال الاشتغال التي تدور في مؤسساته وكياناته؟ وهل لدينا أساس أصيل يمتاز بالمرونة والتجدد إزاء الثقافة العلمية وتغيراتها ومقومات مؤسسية وبشرية للاندماج في هذه الثقافة والتأثير فيها وتبيئتها بما يناسب النسق الاجتماعي القائم؟ كل تلك أسئلة في تقديرنا يمكن أن تكون مثارًا للنقاش الذي يمكن أن تتأسس على ضوءه عديد المراجعات البنيوية في حقول التعليم والإعلام وتدبير مشهد البحث العلمي وإعادة هيكلة مؤسساته. وإذا ما أردنا العودة إلى لغة التكميم فيمكن ملاحظة بعض ما أوردته دراسة موزه الربان حول: "منظومة العلم والتقنية في الوطن العربي: الواقع والمستقبل". والتي أشارت إلى أنه بالرغم من أن البلدان العربية تشكل ما نسبته 5.3% من مجموع سكان العالم إلا أن ما تنفقه على البحث والتطوير لا يتعدى 1.17% من الإنفاق العالمي على البحث والتطوير. ولم ترتفع الحصة العالمية للمنشورات العلمية في البلادن العربية بين عامي 2015 و 2019 سوى بنسبة 1.4% في الوقت الذي لم تضع فيه الدول العربية سوى 2496 براءة اختراع خماسية في عام 2019 في مقابل 17172 لدولة مثل كندا وحدها و 68331 لدولة مثل ألمانيا.

كل تلك المعطيات تدفعنا للتفكير في الخط الواصل بين البلدان العربية فيما يتصل بعلاقتها بالعلم. ونحن نعتقد أن إصلاح تلك العلاقة – أو لنكن أكثر موضوعية – بالقول مراجعتها يقتضي بالضرورة حشد التعاون العربي في المجال العلمي على أن يتأسس ذلك التعاون على تفاهمات مشتركة أولها الإجابة على سؤال: ماذا نريد حقًا من العلم؟ وفي ضوء الإجابة على هذا السؤال يمكن تؤسس مساحات النقاش المشتركة سواء في المؤتمرات أو الندوات أو على مستوى صناع السياسة العلمية ومن الممكن أن تهندس برامج التعاون سواء في الجانب الأكاديمي أو مشروعات البحث العلمي المشتركة، كما يمكن تصمم البرامج والمبادرات الأكثر قدرة على التأثير في الثقافة العلمية العربية سواء كانت تلك البرامج عبارة عن منصات إعلامية أو مناشط على هيئة جوائز ومنتديات أو غيرها. ونقف هنا على ضرورة قصوى لتفعيل التعاون العربي – العربي في مجال تبسيط العلوم The Simplification of Science والذي أصبحت تتبناه مؤسسات بارزه مثل ماكس بلانك وغيرها في أشد العلوم تعقيدًا وتخصصًا لضمان وصول الفهوم والتطبيقات والتجارب إلى أكبر قدرة ممكن من الناس لضمان استدماج الثقافة العلمية في الثقافة العامة.

إن إعادة التفكير في علاقة المجتمعات بالعلم وخاصة في السياق العربي سيسهم بصورة أو بأخرى في معالجة الكثير من الاختلالات البنيوية القائمة، وأهمها مساءلة الوعي في كل القضايا والعوارض التي تطرأ بين الحين والآخر على هذه المجتمعات ثم يكون الاتهام المباشر في تشكيلها إلى عنصر الوعي العام. هذا الوعي لا يمكن له أن يتشكل من فراغ دونما منتج علمي يتمأسس بصورة منهجية داخل مؤسسات انتاج العلم والمعرفة ودونما مختصون قادرة على أداء الركن الثالث في رسالة العلم وهو خدمة المجتمع من خلال إيصال ذلك المنتج بالصورة المثلى والمعقولة إلى فهوم الناس والمشهد العام ودونما إعلام يتيح المساحة العلمية في مناقشته وبرامجه ويتبنى مبادرات لتبسيط العلوم والمعارف ويبدد بأداة العلم ما يمكن أن يكون خرافة أو شائعة أو معتقدًا مغلوطًا.