الذكاء الاصطناعي وتلاشي الأدوار الاجتماعية

08 نوفمبر 2025
08 نوفمبر 2025

في سبتمبر الماضي نشر موقع (Futurism.com) قصة الرجل الإيرلندي الذي كان يعاني من أعراض في الحلق، فلجأ إلى طرح تساؤلات عن حالته والأعراض التي يعاني منها على نموذج الذكاء الاصطناعي ChatGPT في محاولة منه لفهم ما يحدث، فكان النموذج يطمئنه بين السؤال والآخر أن الحالة ليست بتلك الخطورة، ثم مع تفاقم الأعراض بعد أشهر زار طبيبًا متخصصًا ليكتشف حقيقة أن ما يعانيه «سرطان المريء من المرحلة الرابعة»، وأن فرص بقائه لفترة أطول على قيد الحياة باتت محدودة.

وفي محيطنا الاجتماعي نعرف الكثير من الأشخاص الذي أصبحوا يلجأون إلى مثل هذه المنصات، ليس فقط للتساؤل عن حقيقة وطبيعة أعراضٍ معينة ومآلاتها، بل في طلب اقتراح الأدوية المناسبة التي يمكن لهم تناولها وتعاطيها للتخفيف من تلك الأعراض أو الحالة ـ بحسب الوصف الذي يتم تقديمه للنموذج ـ ؛ هذا لا يغفل أن كثيرًا من نماذج الصحة الرقمية صارت تعتمد اليوم على الذكاء الاصطناعي في تشخيص العديد من الأمراض والحالات، ولكن تلك النماذج والأجهزة مصممة ومدربة بشكل دقيق لفهم وتدبير الحقل الذي تتعامل معه، وليست النماذج العامة المتاحة لعموم المستخدمين.

يقودنا هذا في الواقع إلى الوقوف على ميل شريحة واسعة من المجتمع إلى البحث عن ما يُمكن أن نسميه الطمأنة الرقمية Digital reassurance، وهي فكرة البحث عن معلومة أو تحليل يساعدنا على إراحة الذات حين مواجهة مشكلة أو تحد معين، حتى وإن استلزم ذلك تخفيف الحقائق، أو طمس بعض الأعراض التي نعاني منها، وعدم الإفصاح الكامل عن أبعاد المشكلة؛ وعليه، يكون التشخيص «أهون» رقميًا، بدلًا من المواجهة الفعلية والواقعية.

هذا يذكرنا بقصة أخرى حدثت في أبريل الفائت للولد المراهق من كاليفورنيا ذي الـ16 عامًا، والذي بحسب صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل بدأ علاقته مع الذكاء الاصطناعي للمساعدة في أداء الواجبات المنزلية وتخطيط المسار المهني، ليصبح بعدها النموذج ملازمًا له في تفاصيل حياته وأفكاره التي تدور في عقله، بما في ذلك أفكار العزلة والانسحاب الاجتماعي، وصل بعدها الولد إلى مناقشة فكرة الانتحار؛ حتى أن آخر محادثة بينه وبين النموذج كانت تتضمن صورة للطريقة التي يراها مناسبة للانتحار، لينتحر بعد ذلك محدثًا ضجة قضائية وإعلامية بين عائلة الولد والشركة المالكة للنموذج.

هذا ما كان يسميه عالم الاجتماع أولريش بيك «أمراض المجتمع الحديث»، والتي يرى أنها ثلاثة: «الألفة التكنولوجية، والفردية السريعة، وتآكل التضامن التقليدي». والواقع أن السرديات والمرويات التي نسمعها يوميًا عن التحول العميق الذي تحدثه التقنيات الحديثة بما في ذلك نماذج الذكاء الاصطناعي تعبر بشكل واضح عن بداية مرحلة جديدة من التآكل في الأدوار والعلاقات الاجتماعية والأسرية على وجه التحديد.

في مجتمعاتنا، رغم أنه يمكنني تصنيف أننا مازلنا في المرحلة الأولى من إدماج الذكاء الاصطناعي في الواقع الاجتماعي، فإن ما يحدث أمر ينبغي استباقه، ووضع المحكات اللازمة لاحتوائه؛ فهذه النماذج أصبحت تنتزع أدوارًا اجتماعية أصيلة؛ الشخص الذي كان يبوح بما يعانيه سواء صحيًا أو دراسيًا أو مهنيًا أو نفسيًا لأسرة تضمن له «الألفة الاجتماعية»، أو محيط من الأقران يضمن له «الدعم الاجتماعي»، أصبح اليوم يعيش في سياقات متخيلة من «الألفة التكنولوجية»، والتي يصفها علماء الاجتماع بأنها «تُستبدل الاجتماعي بالمُحاكي، والعلائقي بالخوارزمي». وأرباب الأسر الذين كانوا يؤدون أدوارًا بنيوية في تشكيل مسار تشكل الأسرة ونموها من التربية إلى الإعالة الاقتصادية والمادية وصولًا إلى التعليم والتثقيف، مرورًا ببناء الشخصية الاجتماعية، والتكوين الهوياتي للأبناء، أصبحت أدوارهم اليوم أقرب إلى ما يُعرف بـ«المدير التقني» حسب تعبير بعض الدراسات، في إشارة إلى أن بعض المربين يعتقد أن مهمته اليوم مراقبة أوقات الاستخدام، ونوعية المواقع التي يلج إليها الأبناء على الشبكات الرقمية.

وفي الواقع أن ما قد يحدث أكثر خطورة؛ فهناك اليوم ما يُعرف بـ«الرفقاء الاصطناعيون»، والتي تعني استئناس الفرد بمشاركة أفكاره ومشاعره وبوحه مع نماذج افتراضية، وخلق عوالم متخيلة في العلاقة معها.

إن السياق الراهن يشير إلى ثلاثة تداعيات خطيرة وملحة للعمل عليها: استبدال الوظيفة العاطفية والتعاطفية للأسرة، وغياب أي معنى تضامني للحاجة إلى المجتمع والمجموعة الاجتماعية في صيغتها الواقعية، إضافة خلق عوالم متخيلة قد تكون بعيدة عن حقائق الواقع، مما يشي بالانفصال والعزلة واضطرابات الهوية الاجتماعية.

بدأ يظهر مؤخرًا إلى التحليل النفسي ـ الاجتماعي ما يُعرف بظاهرة «ذهان الذكاء الاصطناعي» ومفادها أن بعض روبوتات المحادثة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في تفاعلها المكثف مع المستخدم وفهم منطقه تصل إلى مرحلة يقول عنها بعض الأطباء النفسيين في تحقيق لمجلة Time «تُعيد صياغة كلام المستخدم وتُحرّفه أحيانا بما يتماهى مع توقعاته، وهو ما يُغذي أفكارا مشوّهة أو يُثبت أشكالا من الإنكار أو التوهّمات».

إن الرهان اليوم على أمرين مهمين؛ كيف نستطيع اليوم حشد السياسات التي تجعل الأسرة قائمة على الترابط والتضامن بشكل مستمر، تلك السياسات التي لا تقتصر فقط على البعد الاجتماعي، بل تضمن تضافر الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية لخدمة المكون الأسري وفق منظومة تضامنية. والأمر الآخر كيف نعزز التفكير الناقد الذي ينبغي أن يكون اليوم ليس مهارة علمية تُكسبها مؤسسات التعليم لمنتسبيها فحسب، بل يتحول لمشروع محوري يمكن الأفراد من التعامل بفطنة ودراية مع الموجات الجديدة من التقنية، وما قد تحمله من خلق عوالم محاكية، وما قد تفرزه من أفكار دخيلة، وما قد تنسجه من اتجاهات تدفع بتآكل العلاقات والأدوار المجتمعية.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع، والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان