الذات الساردة.. والسياسات العامة
«الإنسان ذاتٌ ساردة» أو «الإنسان الروائي» إيجاز لرؤية عالم الاتصال والتر فيشر، الذي وضع نظرية «نموذج السرد» كأحد النماذج التي غيرت الكثير من الفهوم والمقاربات السائدة حينها في مجال الاتصال والتواصل إلى جانب علم النفس والعلوم السلوكية وامتد تأثيرها ليشمل العلوم السياسية والخطاب السياسي. يؤسس هذا النموذج لفكرة مؤداها أن الأفراد في المجتمع وخاصة في الأزمنة التي يشيع فيها الجدل العمومي أو تضطرب فيها المجالات العامة ويصبح من الواجب على المؤسسات/ السلطة/ القائمين بالتواصل المؤسسي أو السياسي تقديم بيانات أو توضيحات فإن تلك البيانات متى ما كانت قائمة على السرد المتماسك أو تقديم المعلومة كقصة مسردة يكون تأثيرها أكثر على القناعات المجتمعية مما لو قدمت كمعلومات صماء أو حجج مصفوفة.
ويستند هذا النموذج في جذوره إلى تتبع طبيعة التواصل في التاريخ البشري، وكيف أن السرد كان محورًا أساسيًا من محاور الاجتماع الإنساني في مراحله المختلفة. وأسهم بطريقة أو بأخرى في حفظ المجتمعات واستدامتها وصيرورتها إلى ما آلت إليه وخاصة في أوقات الأزمات أو في حالات تبادل التجارب أو التلاقح الفكري والثقافي.
يقول Constantin Huet في معرِض تحليله لفكرة نموذج السرد إن «ملاحظاتنا عن العالم تعتمد على تصور خطي للوقت: نحن نبحث عن طرق شكّل الماضي من خلالها الحاضر أو الحاضر سيشكل المستقبل، لكننا لا نفكر أبدًا في المستقبل الذي يشكل الحاضر. وبالتالي، فإن فهمنا للسببية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتتابع - حدث هذا ثم حدث ذلك - والتسلسلات بالطبع مرتبطة بالوقت». وبالتالي فإن ذلك قد يفسر لنا اليوم الطريقة التي يربط فيها الأفراد قناعتهم/ عدم قناعتهم بتصور ما، ردًا إلى أحداث مشابهة في الماضي، أو اتساقًا مع مواقف تتطابق في الفكرة أو في المصدر أو في السياق حدثت في الماضي. ومن هنا تأتي أهمية تشكيل السرد في الخطاب العام. حيث إن إحدى أهم وظائفه في تقديرنا هو عزل السياق. فحين نتحدث مثلًا عن سياسة عامة معينة أو برنامج أو خطة ما تُقدم الحكومة أو مؤسسة على تنفيذها أو الشروع فيها فإن إدماج السرد في التواصل الإعلامي حولها من شأنه أن يعزل السياق وأن يحيد كافة العوامل الأخرى المباشرة وغير المباشرة من التأثير على قبول تلك فكرة تلك السياسة العامة أو البرنامج أو الخطة في السياق المجتمعي. يضيف Huet نقطة مهمة أخرى بالقول إن «القصص تساعدنا على جعل العالم أقل عشوائية مما هو عليه في الواقع، وجعلنا نحاول تنظيم حياتنا في روايات، لفرض الحس على العشوائية من حولنا».
في دراسة بعنوان COVID ISSUE: Visual Narratives About COVID-19 Improve Message Accessibility، Self-Efficacy، and Health Precautions أجريت على 1775 مشاركًا تم تعريضهم لمحتويات مرئية على هيئة سرد قصصي لأساليب الوقاية من فيروس كوفيد 19. خلصت الدراسة إلى أن:
- السرد المرئي أداة مفيدة لإشراك جماهير واسعة في رسائل المخاطر واحتياطات الصحة العامة لـ COVID-19.
- (الروايات المرئية) حول COVID-19 كان يُنظر إليها على أنها مفهومة وجذابة لجمهور عريض نسبيًا، بغض النظر عن مستوى التعليم.
- مشاهدة دورة تعليمية مصورة حول COVID-19 أدت إلى تحسين تصورات الكفاءة الذاتية والنوايا السلوكية. وحسن السرد المرئي النوايا السلوكية (أكثر من 25٪). مما يمكن من استخدام تطبيقاته في محو الأمية الصحية، أو القدرة على فهم المعلومات الصحية والتصرف بناءً عليها.
يأتي النموذج السردي في سياق توظيفه في صنع القرار والسياسة العامة كمقابل للنموذج العقلاني الذي يفترض أن كل قرارات الفرد وتوجهاته مبنية بناء عقلانيًا محضًا قائمًا على الحجج والبراهين الواضحة وملتزمًا بالأدلة. النموذج السردي يتعامل مع المجتمع ومشاهد الحياة العامة على أن كتلة من الحكايات والروايات التي يبحث فيها الفرد دائمًا عن سياق أصلها التاريخي وتسلسلها الزمني لمحاولة فهم واقعه من ناحية واتخاذ قراره وصوغ سلوكه واستجاباته تجاه العوارض التي تحتم عليه تقديم استجابة فردية أو مجتمعية معينة.
إن تأثير قوة السرد يتجاوز ذلك إلى حفز 3 خصال للفاعلين المجتمعيين في القضية موضوع السرد وهي (الاستعداد الأكبر للتفاعل، والمزيد من الدعم العاطفي، والمزيد من الدعم الفعال لقضية السرد). وهو ما يؤكده البحث المشترك لكلٍ من ديرك هيرمانس ولاورني فانكن.
إذن ما الغاية من هذا التقديم المجمل حول نموذج السرد؟ ما نبتغي قوله إن هذا النموذج أصبح من المعينات التي يمكن للقائمين على التواصل العمومي والحكومات والمؤسسات ذات الصلة بالجمهور العام أن تستخدمها للعمل على 4 جوانب في تقديرنا:
- التهيئة الإيجابية للسياسات العامة والقرارات المزمعة.
- تصحيح الفهم حول الخطط والبرامج والأنشطة والمبادرات القائمة وجدواها وفاعليتها.
- القدرة على استيعاب منفعة/ خطورة توجهٍ عامٍ سائد.
- التهيئة لاستدراك التوجهات العمومية المطلوبة خلال مرحلة زمنية قادمة.
شريطة أن استخدام هذا النموذج إنما يستند في نجاحهِ على عدة عوامل منها: قوة تماسك الحجج الموردة في القصة / الرواية - مدى تلاؤم تلك الرواية مع البنية الرمزية والثقافية للمجتمع / الوقت الذي تستخدم فيه تلك القصة / الرواية والتحقق من ملاءمته - قدرة العناصر الرمزية المضمنة على التأثير على الوعي العام). تحدد مدونة نشرتها كلية لندن للاقتصاد بعنوان: « Narratives as tools for influencing policy change» ثلاثة اعتبارات أساسية لنجاح السرد في السياسة العامة وهي: «افهم أهدافك - أفهم قيم المساحة الاجتماعية التي تتوجه إليها - اعرف جمهورك». وفي تقديرنا فإن التطور الحاصل في أدوات التواصل والإعلام ونشر وصنائعه وتطبيقاته وتقنياته تتيح مجالًا فسيحًا لاستثمار قوة السرد متى ما وجدت الحبكة الملائمة والدقيقة والقادرة على التأثير على خاصية «الإنسان الروائي».
مبارك الحمداني كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع
