الحروب الحضارية الجديدة

10 سبتمبر 2025
10 سبتمبر 2025

بعد انتهاء الحرب الباردة في بداية تسعينيات القرن الماضي، وتفكك الاتحاد السوفييتي إلى (15) جمهورية مستقلة، أبرزها وأكبرها روسيا الاتحادية التي لا تزال تحتل المركز الأول في العالم من حيث المساحة (تزيد عن 17 مليون كم٢)، ظهر كتاب أثار جدلا واسعا حينها في الأوساط السياسية العالمية ويحمل عنوان (صدام الحضارات) للمفكر الأمريكي صامويل هنتنغتون، وكان قد تم طرح تلك الأفكار في مقال منشور للمؤلف عام 1993، وفيما بعد صدر على شكل كتاب موسع عام 1996 (The Clash of Civilizations)، ويشير الكاتب إلى أن الصراعات المستقبلية في العالم لن تكون في المقام الأول أيديولوجية أو اقتصادية بل ستكون ثقافية وحضارية.

وفكرة صدام أو صراع الحضارات التي وضعها هنتنغتون كانت في سياق رده على الأفكار التي كان قد طرحها الكاتب والباحث الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ) الذي يعني بأن التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبشرية سينتهي بنهاية الحرب الباردة وانتصار القيم الليبرالية الغربية التي ستسود العالم.

وإذا كان صامويل هنتنغتون قد دحض الأفكار التي أوردها فوكوياما مؤكدًا أن الصراع الأيديولوجي بين الاشتراكية والرأسمالية أو بين المعسكرين الشرقي الاشتراكي والغربي الرأسمالي قد انتهى بانتصار الأخير الرأسمالي إلا أنه تنبأ بظهور صراعات من نوع آخر وذات طابع حضاري وثقافي، بمعنى آخر إن فكرة نهاية التاريخ ستكون مؤجلة حتى ينتهي الصراع الحضاري القادم الذي ستقوده الحضارة الغربية للهيمنة على الحضارات الأخرى في العالم، وإن الجانب الحضاري والثقافي سيكون المحفز الأساسي للصراعات القادمة في العالم، وعدّد الكاتب مجموعة من الحضارات العالمية الكبرى التي ستكون في مواجهة الهيمنة الحضارية للغرب من بينها: الحضارة العربية الإسلامية، والحضارة الصينية الكونفوشيوسية والحضارة الروسية الأرثوذوكسية.

بعد سنوات عديدة من طرح تلك الأفكار وتحديدا في بداية الألفية الثالثة حدثت هجمات 11 سبتمبر 2001 وتفجير برجي مركز التجارة العالمي مما أدى إلى انهيارهما ومقتل الآلاف من الأبرياء.

وبغض النظر عن صدقية الروايات المتناقضة حول تلك التفجيرات الإجرامية والمسؤول الحقيقي الذي يقف ورآها، إلا أنها كانت الشرارة التي أذكت حروب الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على الإسلام والمسلمين، وقد وصفها الرئيس الأمريكي آنذاك جورج دبليو بوش بالحملة الصليبية ضد الإرهاب (Crussade) وعلى إثر ذلك تم احتلال أفغانستان لاجتثاث تنظيم القاعدة المتهم بتنفيذ تلك التفجيرات (19 من أعضائه)، وأبدت جميع دول العالم تعاطفها وتضامنها مع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تلك الأحداث المؤسفة.

وفي عام 2003 تم احتلال العراق بذرائع حيازة أسلحة دمار شامل والتعاون بين نظام صدام حسين وتنظيم القاعدة، وجميعنا شهود على تلك الحقبة المؤلمة من تاريخ العراق وما شهده من دماء ودمار.

وشهدت منطقتنا أحداث الربيع العربي منذ نهاية عام 2010 وأدت إلى تدخلات خارجية في عدد من الدول العربية ومواجهات مسلحة وعنف وانقسامات داخلية كبيرة في تلك الدول نتج عنها أعداد كبيرة من الضحايا ودمار وتراجع في مستويات التنمية والحياة المعيشية لشعوب تلك الدول التي لا يزال البعض منها يعاني من الآثار السلبية لتلك الأحداث حتى يومنا هذا. ومن المؤكد أن المستفيد الأول من الفوضى التي شهدتها معظم الدول العربية إبان أحداث الربيع العربي هو إسرائيل.

ومنذ عامين تقريبا والعالم يتفرج على حرب ظالمة يشنها بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتدمير جنوب لبنان واستمرار الاعتداءات عليه بالرغم من اتفاق وقف إطلاق النار، وكذلك الغارات الإسرائيلية المتكررة على سوريا وتدمير مقدرات الجيش السوري بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، بالإضافة إلى حرب الـ12 يوما على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأخيرا محاولة إسرائيل اغتيال قادة حركة حماس في الدوحة وانتهاك سيادة دولة عضو في مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية والأمم المتحدة، وهي الدولة التي تمارس دبلوماسية السلام وتسعى لإطفاء النيران المشتعلة في هذه المنطقة الملتهبة.

والملفت ظهور نتنياهو قبل عدة أيام بتصريح واضح قال فيه (إنني في مهمة تاريخية وروحانية ومرتبط عاطفيا برؤية إسرائيل الكبرى).

إنها حرب حضارية حقيقية تخوضها إسرائيل وحكومتها الحالية المتطرفة وبدعم غربي كامل على الحضارة العربية الإسلامية وتهدف إلى قيام إسرائيل الكبرى كما أعلنها نتنياهو ورسم خرائطها.

أما ما يجري على ضفتي نهر الدنيبر في أوكرانيا فهي الحرب الحضارية الأخرى التي يشهدها العالم على الأراضي الأوكرانية وهي أخطر الأزمات العالمية على الإطلاق في القرن الحادي والعشرين، وفي حال توسعها وعدم إيجاد حلول سلمية لها فقد تتطور إلى حرب عالمية مدمرة للجميع ولن يخرج منها منتصر.

وعليه فإن منطق العقل يجب أن يسود ويكفي أوروبا حروبا ودمارا وكذلك العالم أجمع، بعد حربين عالميتين راح ضحيتهما أكثر من (100) مليون إنسان معظمهم من أبناء القارة الأوروبية.

وبالنظر إلى الصراع الغربي مع الصين فهو في ظاهره اقتصادي-تجاري وجيوسياسي ولكنه يحمل طابعا حضاريا وثقافيا مبطنا وتشهد مناطق بحر الصين الجنوبي توترات متصاعدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة والصين من جهة أخرى.

إن الحضارة الغربية التي قدمت للبشرية إنجازات كبرى في مختلف مجالات الحياة تكاد تكون قد تخلت عن منظومة القيم العظيمة التي أقامتها ونادت بها أثناء فترة الحرب الباردة، ولجأت حاليا إلى محاولات فرض نموذجها المتمثل في الليبرالية الجديدة بالقوة على الآخرين، على اعتبار أنها انتصرت في الحرب الباردة مما يعطيها الحق في النفوذ والهيمنة على العالم والاستحواذ على ثرواته، وهذا التوجه سيؤدي حتما إلى فوضى وحروب وعدم استقرار وقد يؤدي إلى نهاية مأساوية للعالم يكون الجميع فيها خاسر.

د . سعيد بن محمد البرعمي كاتب عماني