الحرب والإيديولوجيا

29 مارس 2023
29 مارس 2023

تحتاج الحرب، أي حرب، إلى شرعنة نفسها في مجتمعها وفي العالم الخارجي على حد سواء. لذلك يميل من يهندسون الحرب ويطلقونها ويديرون فصولها إلى تسويغها لكي تبدو مبررة لا غبار عليها. وهم في ذلك لا يقصدون إلى تبرئة حربهم من شوائب العدوان على الآخرين وإلحاق الظلم بهم فحسب، بل يقصدون إلى تبرئة أنفسهم أيضا: أمام شعبهم وأمام العالم مخافة أي احتساب عليهم أو مساءلة؛ خاصة عند خسارتهم تلك الحرب. والتسويغ هذا تأتيه كل دولة أو كل جماعة تنتوي خوض حرب أو تنغمس فيها، سواءٌ كانت مؤمنة بعدالة الأهداف التي تتغياها من وراء حربها، أو على يقين من نفسها بلا أخلاقية حربها وحاجتها، بالتالي، إلى انتحال مبرر أخلاقي لها. وهكذا تجد الحرب - بما هي امتدادٌ للسياسة بلغة كلاوزڤيتس ولينين - نفسها في مسيس حاجة إلى إيديولوجيا خاصة تخلع عليها المشروعية وتبررها، مثلها في ذلك مثل أي موقف سياسي أو قرار آخر غير عسكري.

لتسويغ الحرب وتأسيس مشروعيتها أنماطٌ مختلفة ترتد أشكالها المتعددة إلى نمطين رئيسين: نمط التسويغ الديني، ونمط التسويغ المدني. وهذان، بعيداً من اختلافهما الظاهري، يدوران على أساس واحد ومضمون واحد - هو الجامع بينهما في المطاف الأخير- هو المضمون السياسي؛ هذا الذي يتولد من وجود مصلحة/مصالح تبرره وتحمل على ركوب مركب السياسة إلى تلك المصلحة. هكذا ننتهي إلى التسليم بأن المصلحة هي التي عليها مبنى المسألة برمتها؛ فهي لا تتحقق إلا من طريق توسل السياسة؛ والسياسة قد تقتضي الحرب فترسو مراكبها عليها؛ وهذه تعتاز - مثل غيرها - تسويغاً يشرعنها، والمصلحة - مثلما يفيدنا ميكياڤيللي- مبرر نفسها..

شهد التاريخ الإنساني على حروب لبست لنفسها لبوسا دينيا لدى مجتمعات كثيرة، سواء كانت حروبا تغـيت تحقيق أهداف دينية (= نشر الدين مثلا)، أو انصرفت إلى تحصيل أهداف مادية، أو انطوت على مزيج من هذه ومن تلك؛ إذ الجامع بينها أنها سخرت الدين لتبرير نفسها، لـما في الديني من دوافع ذات طاقة هائلة تساعد في استنفار القوى، أو في تصليب موقف الجماعة المقاتلة وتثبيت قواها، ناهيك بما يسمح به تسخيره من أخلـقة الحرب (أو خلع الأخلاقية عليها). ويكفي، هنا، أن يسـتدل على ذلك بما كان يخاض من حروب في المجتمعات المسيحية (الإمبراطورية الرومانية: الشرقية والغربية) وضد غيرها الخارجي مما كان يصنف عند قادتها ومفكريها ولاهوتييها في خانة «الحرب المقدسة» و«الحرب العادلة»، وبما كان يخاض في عالم الإسلام من حروب تحت عنوان الجهاد. ومع أن عصر الحروب الدينية تصرم، إلا أن توسـل الدين في تبرير الحروب لم ينته حتى يوم الناس هذا؛ ليس فقط في مجتمعات ما برحت مشدودة إلى ثقافتها الدينية، مثل المجتمعات الإسلامية، بل حتى في مجتمعات غربية يظن أن علمانيـتها جبت قيمها الدينية، إذ من يقوى على نسيان الاستخدام الأمريكي، مثلا، للرموز الدينية قبيل الحرب على العراق، في العام 1991، ثم أثناء التحضيرات العسكرية والتحضيرات السياسية والإعلامية للرأي العام قصد غـزو البلد عينه في العام 2003.

على أنه إذا كان التسويغ الديني سمة من سمات المجتمعات والدول الوسيطة والتوحيدية (وإن استمرت صورٌ منه في الزمن المعاصر)، فإن التسويغ السياسي الزمني للحرب يظل أكثر أنواع التبرير حضوراً واستمراراً: في الماضي والحاضر معا، وليس معنى ذلك أن هذا الضرب من التسويغ - الزمني أو المدني - للحرب أدعى إلى الجهر بأهدافه الفعلية وتسميتها على التحقيق من التسويغ الديني للحرب؛ ذلك أنه هو نفسه تسويغ إيديولوجي لا يتورع عن الإيهام بحمله هدفا أعلى لفعل عسكري يتغيا مصالح مادية قد لا تكون مشروعة في الحد الأدنى منها فكيف بأن تحمل أهدافا عليا وتسعى في تحقيقها. نعم، يمكن لأي حرب أن تشن من دولة أو مجتمع أو حركة تحت عنوان وطني (= الاستقلال، استعادة أراض، استعادة سيادة مصادرة أو منقوصة...)، أو تحت عنوان اجتماعي- سياسي، أو قانوني (= تطبيق القانون الدولي...)؛ وقد يكون التبرير صادقا؛ كلا أو بعضا؛ ولكن، ما كل منطوق يطابق مضمونه حكماً، وما كل معلن في صيغة شعار يترجم - على وجه دقيق - ما يعلنه، بل الغالب على المعلن من الأهداف، التي يدعيها مهندسو الحروب ورعاتها وقادتها، أنه لا يقول ما يقصد إليه على التحقيق، حتى لا نقول إنه يتقصد طمسه والإيحاء بغيره قصد تضليل وعي من تقع عليه الحرب (= العدو أو الخصم)، على ما هو معتادٌ ومألوف في كل فعل سياسي يتطلع إلى إرباك الخصم، وتشتيت انتباهه، بل ومخادعته بزائف المعلومات، خاصةً في حالة صراعية مثل الحرب التي يجوز فيها كل شيء مادام القتـل فيها جائزاً...

لا بد للحرب، إذن، من إيديولوجية مساوقة، أي من فعل إيديولوجي ينصرف إلى إساغتها وخلع المشروعية عليها، بغض النظر عما إذا كان من يقف وراء الحرب - قراراً وتنفيذاً - على يقين من عدالة قضيتها أو العكس؛ إذ ما حصل أن تقاسـم المتحاربان شعورا واحدا بعدالة حربهما ولا عدالتها، لذلك لا ندحة عن فعـل إيديولوجي يبطل حجة الخصم إن مال إلى سردية عنها مخالفة. والغالب على الجهد المصروف إلى تبرير الحرب أن يسلك لنفسه سبيلين: تبريرها في الداخل وتبريرها في العالم الخارجي؛ فأما في الداخل فلأن نجاح الحرب وقفٌ، دائماً، على إجماع المجتمع والشعب عليها وعلى التضحية واسترخاص النفيس من أجل النصر، بل وعلى تحمل الأكلاف الإنسانية والمادية الباهظة التي تفرضها؛ وأما العالم الخارجي فلأنه ذو تأثير كبير - في عالم اليوم - على أطراف المواجهة، ولأن كلاً من القوتين المتجابهتين يحاول أن ينأى بنفسه عن تهمة العدوان العسكري المخالف للقوانين الدولية. على أن التبرير المزدوج هذا ليس وحده الذي ينتمي إلى الفعل الإيديولوجي المساوق للحرب، وإنما يماثله في ذلك تجهيز عملية الحرب بأدوات الخداع والتضليل؛ هذه التي يتوجه فيها المتحاربان إلى بعضهما لإيقاع الخسائر المتبادلة في الوعي بالحرب وعدتها. وهذه، طبعا، غير الحرب النفسية بالضرورة.