التلقي الاجتماع للمعلومات في أزمنة الأزمات..
يشكل عنصر «إدارة تدفق المعلومات» أحد أكثر العناصر حساسية في منظومة إدارة الأزمات اليوم، وتتضاعف حساسية هذا العنصر في أزمنتنا الراهنة نتيجة عدة عوامل، منها سرعة تدفق المعلومات، وعدم قدرة مراكز السيطرة سواء كانت حكومات أو مؤسسات أو فاعلين أو منتجين على توجيهها وفق نسق محدد بالإضافة إلى تعدد الفاعلين من صانعي المعلومات، ووجود عدة «فلاتر» تعترض عملية التلقي المباشر لها. ووسط هذه العناصر فإن القدرة على إدارة الأزمة بما فيها توجيه سلوك المجتمع عبر إحاطته بالمعلومات أو دفعه لاتخاذ قرارات أو توجيهه لانتهاج سلوكيات معينة يرتبط حسمًا بشكل مباشر بالقدرة على إدارة مسار تدفق المعلومات.
ومن المفاهيم الشائعة التي يتم استخدامها ارتباطا بهذه الأزمة مفهوم «الإنهاك المعلوماتي Information Fatigue Syndrome» ورغم أن جذور المفهوم ليست بالمستجدة وصكت على يد عالم الاجتماع جورج زيمل، الذي يرى أن «الحمل الزائد للأحاسيس المرتبطة بالتدفق الهائل للمعلومات في العالم الحديث تسبب بشكل متزايد في استنفاد الأشخاص وفقدانهم حساسيتهم وجعلهم غير قادرين على الاستجابة المنطقية للمواقف». إلا أن فهم التطور التاريخي للمفهوم يقودنا إلى فهم حساسيته وطريقة التأثير الفارقة التي يؤثر فيها على المجتمعات الإنسانية وخصوصًا في أوقات الأزمات، حيث لنا أن نتخيل عدد المرات التي تضاعف فيها حجم المعلومات / مصادر المعلومات / مصادر نقل المعلومات بالمقارنة مع القدرة البشرية على التلقي سواء كانت تلك القدرة من الناحية العقلية أو من الناحية الفكرية أو من ناحية التوظيف السلوكي لتلك المعلومات والتعامل معها وتحويلها إلى قرارات أو سلوكيات ممارسة. هذا إلى جانب المصطلح الآخر الذي برز مع جائحة كوفيد 19 ظهر وركزت عليه منظمة الصحة العالمية وحذرت منه في عدة دراسات ومنشورات وهو «الوباء المعلوماتي information epidemic» وقد تحدثنا عن تداعياته في مقالة سابقة.
يعنينا هنا التركيز على الكيفية التي يؤثر فيها الإنهاك المعلوماتي على مسار إدارة الأزمات. في الواقع المسألة ترتبط بوضوح المنصات وبالقدرة المركزية على إدارة تدفق المعرفة بمسار الأزمة من عدة نواح (الجهة المركزية المعنية بإدارة الأزمة -المعلومات حول طبيعة الأزمة ومستويات خطورتها - التحديثات فيما يتعلق بتطورات الأزمة - الالتزامات المرجوة من الفاعلين الاجتماعيين وإطارها الزمني وسياق ضبطها - أفضل السيناريوهات وأسوأ السيناريوهات المحتملة) هذه هي بنية المعرفة التي يتوقعها العقل الاجتماعي ويتوقع الحصول على إجابات واضحة حولها فيما يتعلق بمسار إدارة أي أزمة ومن الناحية الأخرى من المهم أن يعرف المجتمع من هو المخول المباشر والمرجعي بتوليد المعرفة والمعلومات والإجابات حول مناطق الاستفهام السابقة. سواء كان ذلك في صورة منصة أو مؤسسة أو فرد أو مجموعة من الجهات المرجعية ويفترض في ذلك أن يتم تنويع مستويات الرسالة وأنماطها وطرائق تقديمها في محاولة الدفع بالفاعلين الاجتماعيين نحو عدم الإنهاك المعلوماتي من رتابة الرسالة أيضًا.
مؤخرًا قدمت دراسة إلى الدورة الثامنة من منتدى دراسات الخليج والجزيرة العربية حول «الاستجابة المجتمعية لجائحة كوفيد 19 في عُمان» وعلى مستوى النهج التطبيقي للدراسة وُجِه لعينتها سؤال حول تقييم عناصر القوة في الاستجابة المعلوماتية للجائحة على مستوى عُمان و اتفقت العينة بنسب متوالية (57.3% - 56.9% - 56.9%) على عبارات أن (رسالة الإعلام الرسمي اتسمت بالتوازن بين المنصات التقليدية ومنصات التواصل الاجتماعي - الدولة استطاعت ضبط المعلومات المتدفقة حول الجائحة على مواقع التواصل الاجتماعي - المؤسسات الرسمية تمكنت من مواجهة الشائعات حول الجائحة بكفاءة) هذه المؤشرات الثلاثة تنبئ نسبيًا أن الإدارة المعلوماتية للجائحة بوصفها أزمة كانت ناجحة في بعض جوانبها وسندت الأدوات الأخرى في إدارة الأزمة بما فيها المقاربات الصحية ومقاربات الاحترازات العامة ومقاربات القانون لضبط السلوك المجتمعي. ورغم أن الفاعلين الاجتماعيين من عينة الدراسة تباينت آراؤهم بخصوص وضوح أركان الرسالة الإعلامية وملامستها لمفهوم كافة الشرائح الاجتماعية والثقافية إلا أنه في تقديرنا أن ثمة مكتسبات يمكن البناء عليها من خلال إدارة الجائحة فيما يتعلق بالإدارة المعلوماتية:
- نجاح فكرة «المؤتمر الأسبوعي» بوصفه منصة المعلومات الرئيسية حول التحديثات الأساسية فيما يتعلق بمنظومة إدارة الجائحة.
- تنويع الرسالة الإعلامية في منصاتها بين المنصات التقليدية ومنصات التواصل الاجتماعي ومخاطبة مستويات الفاعلين الاجتماعيين بأنماطهم العمرية المختلفة.
-القدرة على الدحض المباشر للشائعات والتصحيح المباشر للمعلومات الموازية المرتبطة بها وتحقيق «الردع المعلوماتي» الموازي للردع العام في مسار إدارة الجائحة.
على المستوى التقني أصبحت هناك تدخلات تقنية لمواجهة الإنهاك المعلوماتي على مستوى الشركات على سبيل المثال حيث يتحدث كريج روث مدير المحتوى بشركة بيرتون أنه استطاع إنشاء نموذج مفاهيمي بمسمى «نظام إدارة الانتباه» للعاملين في الشركة وميزة هذا النظام هو التحكم وتصفية كمية الرسائل التي تصل إلى موظفي الشركة والمتعاملين معها. ويقول روث إن النظام «يتضمن محركًا لاستجابة الانتباه يتميز بمعلومات تواجد غنية وقواعد وأدوات تسجيل النقاط المستخدمة لاتخاذ القرارات بشأن الرسائل، وإعادة توجيه التواصل عبر طرق أو قنوات مختلفة. كما يتضمن أيضًا مستشعرات لمراقبة الحمل والمعلومات المستقاة من سطح مكتب المستخدم مثل المهمة التي يقوم بها أو المنطقة الزمنية التي يتواجد فيها».
هذا على مستوى الأنظمة المغلقة والمحدودة لكن يبقى السؤال: ماذا؟ حينما نتعامل مع مجتمعات مفتوحة ومتصلة ومشتبكة في داخلها وخارجها بشبكة غير متناهية من وسائط التدفق المعلوماتي وصناعة المعلومة، بالتأكيد فإن المحور في هذه الحالة لن يكون النظام / الوسيط / المنصة بقدر ما يجب أن يكون البنية النفسية والفكرية والنقدية والمعرفية للفاعل الاجتماعي نفسه. هذا دور تضافري في تصوري يجب أن تعمل عليه كافة مؤسسات التنشئة الاجتماعية وأهمها وسائل الإعلام العمومية التي يجب ألا تركز اليوم فقط على سبق الأخبار والمعلومات فحسب وإنما على تزويد الأفراد بالحاسة النقدية للتعامل معها عبر توسيع مساحات التحليل وبرامج ومساحات الرأي وقراءة ما خلف الوقائع قراءة ناقدة تمكن المتلقي من الفهم المعمق من ناحية وتؤهله لامتلاك الأدوات التي يواجه بها تدفق المعلومات وكيف ينتقي بنباهة ومعيارية ما يمكن أن يبني سلوكه وقراراته عليه.
